دمشق | بين اتهام بعضهم بالتهرب من تسديد قروضهم للمصارف المحلية والمقدّرة قيمتها بمليارات الليرات، واتهام بعضهم الآخر بالتورط المباشر في تمويل بعض فصائل المعارضة المسلحة، عادت الأضواء لتسلط من جديد على شريحة رجال الأعمال الذين غادروا البلاد مع تصاعد الأزمة وتدهور الوضع الأمني. فهم، وإن تمكنوا من إبعاد التهمتين السابقتين عن أنفسهم، إلا أنهم ظلوا محكومين مسبقاً من قبل كثيرين بتهمة «التخلي» عن بلادهم في محنتها المصيرية.
تتباين التقديرات الإحصائية حول أعداد رجال الأعمال الذين غادروا سوريا للإقامة والعمل في عدد من الدول العربية والأجنبية؛ فرئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر، خلدون الموقع، يؤكد لـ«الأخبار» أن التقديرات، تبعاً لمصادر مختلفة، تشير الى خروج نحو من 50 ألف رجل أعمال من بلادهم خلال فترة الأزمة، توجّه 30% منهم إلى مصر، ويصبح الرقم مرشحاً للارتفاع أكثر إذا ما شمل أصحاب الأعمال الصغيرة ومختلف حلقات التجارة.
وتؤشر البيانات الرسمية وغير الرسمية المنشورة في عدد من الدول العربية المجاورة لسوريا، والمتعلقة بقيمة الاستثمارات السورية الموظفة حديثاً في هذه الدول وعدد المشاريع والشركات المؤسسة، إلى الحجم الكبير لظاهرة نزوح رجال الأعمال السوريين نحو الخارج. فوفقاً لوزارة الاستثمار المصرية، مثلاً، احتلت الشركات السورية المؤسسة في مصر خلال عام 2012 قائمة الشركات التي يمتلكها أجانب، ووصل عددها إلى ‏365 شركة استثمارية من إجمالي ‏939‏ شركة تم تأسيسها، بينما تشير المعلومات المتداولة إلى أن قيمة الاستثمارات السورية في مصر تتراوح بين 300 و500 مليون دولار. أما في الأردن، فإن عدد الشركات السورية المسجلة فيه ارتفع إلى 702 شركة في الأشهر الأحد عشر الأولى من العام الماضي، مقارنةً بـ317 شركة سجلت خلال الفترة نفسها من 2012.
خطف وخسائر
في الحديث عن الأسباب التي دعت هذه الشريحة الاقتصادية إلى مغادرة سوريا تبرز أربع نقاط أساسية مرتبطة بشكل مباشر بتداعيات الأزمة وتأثيراتها، وهي:
ـــ ارتفاع منسوب المخاطر الشخصية والتهديدات الأمنية لدى أفراد هذه الشريحة. فعضو غرفة تجارة دمشق بشار النوري يوضح لـ«الأخبار» أن معظم رجال الأعمال الذين خرجوا من البلاد كانوا خائفين من تعرضهم وأبنائهم لعمليات خطف، وهم ينتظرون تحسن الأوضاع للعودة. وهذا أيضاً ما ذهب إليه بطريقة غير مباشرة تقرير الحوكمة الصادر أخيراً عن «هيئة الأوراق والأسواق المالية»، عندما أكد وجود غالبية أعضاء مجالس إدارة الشركات المساهمة خارج سوريا في ظروف الأزمة.
وتنتشر في مناطق عدة، سواء كانت تحت سيطرة الدولة أو التنظيمات المعارضة المسلحة، ظاهرة الخطف طلباً لفدية مالية. وفي كثير من الأحيان كان الخاطفون يقتلون مخطوفيهم رغم حصولهم على الفدية المالية، إما لأسباب سياسية، أو لمنع المخطوفين من الإدلاء بأي معلومات تقود إلى الكشف عن هذه العصابات وأماكن احتجاز المخطوفين.
ـــ تدهور الأوضاع الاقتصادية والاستثمارية وتوقف معظم المنشآت الصناعية عن العمل نتيجة أعمال التخريب والسرقة ووجودها في مناطق ساخنة، وهو ما دفع بالمئات من المستثمرين السوريين إلى نقل استثماراتهم إلى دول عربية وأجنبية وإعادة تأسيس مشروعاتهم فيها بغية تعويض خسائرهم، مستندين في ذلك الى ما حققته منتجاتهم سابقاً من رواج وشهرة في الأسواق الخارجية.
ووفق ما قدمه رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، المهندس فارس الشهابي، من معلومات خاصة لـ«الأخبار»، فإنّ التقديرات تشير إلى أن إجمالي قيمة الأضرار التي لحقت بالمنشآت الصناعية الخاصة جراء الأزمة بلغ نحو 50 مليار دولار.
ــ تبنّي بعض رجال الأعمال لمواقف سياسية معارضة للنظام، وبعضهم ذهب أبعد من ذلك من خلال دعمه لتنظيمات المعارضة المسلحة. وهذا اتهام أكدته قرارات الحجز الاحتياطي التي أصدرتها الحكومة، وطالت أموال عدد من رجال الأعمال البارزين وممتلكاتهم. إلا أن مصادر خاصة في وزارة المالية أكدت لـ«الأخبار» أنّ قرارات الحجز الاحتياطي هذه، التي صدرت بتهمة دعم أصحابها للإرهاب، لا تزال قليلة جداً مقارنة بالعدد الإجمالي لقرارات الحجز الاحتياطي الصادرة حتى الآن. وهو أمر يفسره السياسيون بضعف ومحدودية التمويل الداخلي لتنظيمات المعارضة المسلحة، وتثبيت حقيقة التمويل الخارجي الواسع، وما يحمله ذلك من دلالات وأهداف تبتعد عن المصلحة الوطنية السورية. وحتى لو كانت فكرة التمويل الداخلي قابلة للنقاش، فإن عضو غرفة تجارة دمشق بشار النوري يرى أنّ رجال الأعمال لا يملكون مالاً كافياً لمثل تلك المهمة المرفوضة أساساً.
ـــ تهرب البعض من تسديد القروض التي حصل عليها من المصارف السورية خلال فترة ما قبل الأزمة، وهذا كان موضوع سجال إعلامي واسع نشب إثر نشر بعض المواقع الالكترونية معلومات تتعلق بتهرب رجال أعمال كبار مقيمين في الخارج من تسديد ما يترتب عليهم من التزامات مالية. ويوضح عضو غرفة تجارة دمشق ما حدث بالإشارة إلى أنه يجب التمييز بين رجال أعمال تعثروا عن تسديد قروضهم المصرفية نتيجة نقص السيولة المالية لديهم بعد تدمير مصانعهم أو عدم قدرتهم على الوصول إليها، وهؤلاء ليس لهم أي طموحات سياسية وإن كان لهم موقف من الأخطاء التي ارتكبت في ما مضى بحق الاقتصاد الوطني، وبين مجموعة من «النصابين» استطاع أفرادها الاستفادة من مظاهر الفساد والحصول على قروض مصرفية مقابل ضمانات عقارية لا تساوي سوى 30% من قيمة تلك القروض.
وفي ضوء توسع دائرة القتال، وتعرض آلاف المنشآت والمرافق الخدمية والبنى التحتية للتدمير والنهب، يبدو من المبكر الحديث اليوم عن عودة قريبة لمليارات الدولارات التي غادرت وأصحابها سوريا خلال 33 شهراً بحثاً عن الأمان والاستقرار... وإذا كان رأس المال جباناً كما يقال، فإن صاحبه في سوريا كاد يموت من الهم والخوف.