فرضت «داعش» الجزية على المسيحيين في الرقّة. حدثٌ يداعب، اليوم، غرائز، مكبوتة بقوّة الدولة، لدى إسلاميين. أكثرهم اعتدالاً لا يستطيع أن يجادل «الداعشيين» في النص الصريح، فما بالك بالتكفيريين من أمراء «النصرة» ــــ الممثل الشرعيّ لـ «القاعدة» في بلاد الشام ــــ أو من تنظيمات «الجبهة الإسلامية» أو من كتائب «الجيش الحر» التي لا تخفي هويّتها الأصولية في مسمّياتها وراياتها كما في أفعالها. في الواقع، كل نقاش يقف على أرضية نهائيّة النص ومثال السلف، ستكسبه «الدولة الإسلامية» حتماً، لأنها الأكثر التزاماً وحِرَفية، في فضاء محكوم باستحضار منطق تكرار لحظة التأسيس الديني خارج الزمن التاريخي.
قرر «الداعشيون» الذين استتبّت لهم إمرة الرقّة أنهم يواجهون «مشكلة تتطلب حلاً»؛ إذ كيف بقي مسيحيو الرقة مسيحيين كفّاراً بعد 14 قرناً من نشوء الإسلام، وأحكامه القاطعة فيهم. واجبٌ مستعجل جداً، القيام بتصحيح خطأ استمرّ قروناً.
ولكن، لماذا استمرّ هذا الخطأ اللعين كل هذه القرون؟ أكانت أجيال المسلمين، منذ التأسيس، غافلة عن النص الصريح، أو ضعيفة الإيمان؟ لا يستطيع الأصوليون، بكل ألوانهم، أن يتصوّروا استمرار حضور المسيحيين في المشرق ــــ ومن دون جزية أو قتال ــــ إلا كخطأ تم التأخُّر طويلاً في إصلاحه، بحيث لم يعد تأجيل معالجته ممكناً.
لدى البحث في جذور ذلك «الخطأ»، سنجد أنه لم يكن كذلك، وإنما خلاصة صيرورة تاريخية معقّدة من العقلانية الواقعية التي أوقفت تطبيق النصوص الحربية ضد المسيحيين واليهود وسواهم من غير المسلمين، بعد استكمال ضرورات قيام الدولة الإسلامية الأولى، ثم انشقاق الاسلام نفسه، فرقاً ومذاهب وطوائف، وتشكّل لوحة دينية تعددية في سياق تاريخي واقعي من موازين القوى والصدامات والتحالفات، فرضت الجزية هنا أو هناك أحياناً، ونسختها هنا أو هناك في أزمان عديدة، مما كان يستفز قوى أصولية للسعي إلى تصحيح الخطأ بالمذابح والتهديدات والتنكيل. وقد شهد التاريخ أول صحوة أصولية مضادة للمسيحيين في عهد الخليفة الأموي، عمر بن عبدالعزيز، حين سعى الأصوليون إلى الانتقام من جو الوئام المسلم ــــ المسيحي في ظل الدولة الأموية التي أسسها معاوية بن أبي سفيان على روابط العروبة، لا على روابط الدين. وحيثما كانت الروابط الأولى غالبة على الثانية، كما هو الحال، مثلاً، في التجمعات العشائرية، نَعِم المسيحيون بعضوية المجتمع المحلي المتساوية، بلا قيود.
ليس هنا المكان الملائم لسرد تاريخي، ولكن لفهم آلية التاريخ الاجتماعي في التعامل الواقعي مع النصوص. لم تلغ الدولة العثمانية، الجزية، قانونياً، إلا في العام 1855، لكنها لم تكن، قبل ذلك، قادرة على تطبيقه دائماً، وفي كل مكان.
«داعش»، في لحظة تأسيس دولتها، تستعيد لحظة تأسيس الدولة الإسلامية الأولى، مهملةً تاريخ المناطق والمجتمعات والتحوّلات. الجديد أنها أضافت إلى الخيارات النصّية بالنسبة للمسيحيين (الإسلام أو الجزية أو القتال ــــ والأخير، في حالة التغلّب، لا يعني سوى القتل ــــ) تهديداً أبدعه الهَوَس الجنسي المشبوب لدى التكفيريين والمرتبط بانتهاك كرامة الكفّار: إقامة الأمراء في بيوت المسيحيين للتمتع بنسائهم!
الأصوليّ يلغي التاريخيّ جملةً، ويلغي، خصوصاً، شروط التكوّن التاريخي للنسيج الاجتماعي الثقافي التعددي كما أبدعته القرون في المشرق العربي. وقد ظنت الدولة الوطنية الحديثة أنها ترث ذلك النسيج وتبني فوقه ما يمكننا أن نسميه «علمانية واقعية» لا تحتاج إلى معاناة القطيعة الفكرية مع الأصولية، قطيعة غير ممكنة إلا بثورة ثقافية علمانية جذرية، تحوّل الواقعي إلى ايديولوجيا، لئلا تظل الأيديولوجية الماضوية، تستعيد حضورها المدمّر، كلما ضعفت الدولة أو تراجعت قدرتها على قمع التوحش أو تحسّن هامش الحريات الذي أصبح هامشاً لحرية الأصولية، منبع التكفيرية، وعدوانها المميت على المجتمعات والدول.
تسوم «داعش» مسلمي الرقة ومسلماتها ألواناً من الانتهاكات الفظيعة، ومنها قطع أصابع المدخنين وإعدام مقصّري شعورهم... الخ. وتجنّد النساء لشنّ حرب إذلال جسدي ومعنوي على النساء ــــ ليس فقط عدم ارتداء النقاب، بل ظهور المرأة بلا محرم أو جلوسها على كرسيّ يعرّضها للجلد... الخ؛ إنما كل ذلك يتعلق بمخالفة السلوكيات التي قرّرها أمراء داعش المفصومين نفسياً، لا بالهوية والوجود، كما هو الحال بالنسبة للمسيحيين والشيعة والعلويين والاسماعيليين والدروز الذين يتعرضون لحرب إبادة صريحة، تشنها فصائل «الثورة» السورية الراهنة بلا استثناء.
مسيحيو الرقّة ينتظرون الجيش العربي السوري لتحريرهم، أما مسيحيو سوريا والمشرق، فينتظرون أصواتاً جريئة واضحة عالية، تندّد وتتبرّأ وتقطع الصلات ليس فقط مع أفعال مجرمي «داعش» وزميلاتها، بل مع جذور رؤيتهم الفقهية والدينية؛ هل هناك اسلاميون يجرؤون على القول: حكم الجزية نسخه التاريخ.