وسط انتظام دعوات «تجمع المهنيين السودانيين»، لا سيما في العاصمة الخرطوم، يسعى الرئيس عمر البشير إلى مواجهة الاحتجاجات الأخطر على حكمه، باستيعابها و«شرعنتها» و«احترامها» كما أكد رئيس الوزراء معتز موسى، أمس، في محاولة لتهدئة الشارع، لا سيما فئة الشباب، النسبة الأكبر في الاحتجاجات، بغية الوصول إلى عتبة الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي. وفيما تستعصي الأزمات التي سببت الاحتجاجات، على الحلول التي تردّد السلطات التأكيد على قرب التوصّل إليها، يبحث البشير في الوقت بدل الضائع عن مصداقية لوعوده في أزمات أخرى كالكهرباء والمياه والبنية التحتية والزراعة.عدم ترجمة الوعود الاقتصادية على الأرض، بعد شهر ونصف الشهر على الاحتجاجات، وذهاب السلطات إلى خيار استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، الذين سقط منهم العشرات بالرصاص الحي، آخرهم شاب توفي قيد الاحتجاز، يمنح «تجمّع المهنيين» المستقل، الذي يحظى بدعم قوى المعارضة، آذاناً صاغية من فئة الشباب، الذين يستجيبون بشكل متزايد لدعوات التظاهر منذ سبعة أسابيع. وبينما أكد «التجمع»، أمس، أن «العودة إلى المنازل تعني الموت جُبناً»، انطلقت مسيرات من مختلف المناطق للمطالبة برحيل البشير، استجابة لدعوة قدمها يوم السبت الماضي. واستخدم المشاركون مكبرات الصوت والهتافات الموحدة والأعلام الوطنية، تعبيراً عن «وحدة الصف» تجاه مطلب «إسقاط النظام».
وفي شوارع ولاية كسلا شرق السودان، ندّد المحتجون بمقتل الشاب أحمد خير (36 عاماً)، الذي ألقت السلطات القبض عليه الأسبوع الماضي، قبل أن يقتل أول من أمس وهو قيد الاحتجاز. وبينما رفضت السلطات إيضاح سبب الوفاة، تبيّن أنه ناتج من الضرب المبرح، بحسب ما أشار أحد أقارب القتيل، قائلاً إن جثمانه كان مغطى بالكدمات والرضوض. ويضاف خير إلى ناشطَين آخرَين قتلا تحت التعذيب، هما فائز عبد الله عمر وحسن طلقا في جنوب كردفان، وفق ما أعلن «تجمّع المهنيين» في بيان مشترك مع الأحزاب المعارضة.

أزمات مستعصية
وبينما تصعّد المعارضة، كشف مجلس الوزراء قبل يومين عن خطة لمعالجة الأزمات الاقتصادية المستمرة منذ ما يقارب العام. لكنها ليست الأولى من نوعها، ولا تبدو قابلة لحل الأزمات الثلاث المستعصية. فبالنسبة إلى أزمة الوقود، تتنازع الحكومة بين خياري رفع الدعم وإبقائه. وبحسب ما أوضحت صحيفة «الصيحة» المحلية، فإن أياً من الخطوتين لها تكاليفها، لكن الحكومة أخذت بخيار إبقاء الدعم لأن رفعه سيفاقم الاحتجاجات الشعبية، على رغم أن ذلك يكلّف الدولة 17.9 مليار جنيه بناء على موازنة العام الحالي، بينما رفع الدعم الجزئي السابق وفّر للدولة ما قيمته 1.2 مليار جنيه. لكن رئيس شعبة النفط، أيمن محمد أحمد، يستبعد حل أزمة الوقود جذرياً بغير زيادة الإنتاج، وهو ما يتجه إليه البشير في ما يبدو، وفق ما أعلن، منتصف الشهر الماضي، عن أن هناك ترتيبات لتوفير المواد البترولية عبر الموارد المحلية، وبدعم من الإمارات. لكن ذلك يحتاج إلى وقت قد يمتد إلى بضع سنوات، كما أكد أحمد، موضحاً في حديث إلى الصحيفة أن «السبيل الوحيد لتوفير المشتقات النفطية، هو زيادة الإنتاج النفطي لحد يكفي تماماً حاجة الاستهلاك المتزايدة».
يحاول البشير «احتواء» الاحتجاجات لسحب البساط من تحت المعارضة قبل الانتخابات المقبلة


أما في شأن أزمة نقص الأوراق المالية، التي لم يدخر رئيس الوزراء معتز موسى، ولا محافظ البنك المركزي، محمد خير الزبير، وسعاً ولا مناسبة إلا وأكدا قرب حلها، فقد شهدت معالجات وفق الصحيفة السودانية، مثل طباعة الفئات الكبيرة 100- 200 -500 جنيه، لحل مشكلة نقص الأوراق المالية. وصاحَب طرح المركزي فئة المئة جنيه للتداول رسمياً، وتسليم المصارف فئتي 200 -500 جنيه توقعات بالانفراج. وفيما عزا رئيس الوزراء معتز موسى، أزمة السيولة إلى «انفصال جنوب السودان»، الذي «كان سبباً في فقدان الدولة حوالى 90% من إيراداتها من النقد الأجنبي»، حمَّلت وزارة المالية المواطنين مسؤولية تفاقم أزمة السيولة، خصوصاً المقيمين بالولايات، لا سيما الموجودين في مناطق التعدين والإنتاج. وأشارت إلى أن 80% من الكتلة النقدية متوافرة في الولايات. وعزت الأمر لفقدان المواطنين الثقة في الجهاز المصرفي، بجانب وجود 4 بطاقات لكل مواطن، علماً أن نائب المدير العام لديوان الحسابات، مرتضي صالح وهبه، أقرّ بوجود ضعف في البنية التحتية لمشروع الدفع الإلكتروني في الولايات، لكنه توقع في حديث إلى موقع «آخر لحظة» المحلي، أن تؤدي الفئات الجديدة إلى انفراج في أزمة السيولة خلال الفترة المقبلة.
أما في شأن ظاهرة ارتفاع أسعار السلع الضرورية، فقد دشّنت الحكومة مبادرة «أسواق الشباب» لمواجهتها، قبل أسبوعين، تستهدف بيع المنتجات الاستهلاكية للمواطنين بسعر المصانع، لكن رئيس الغرفة التجارية، حسن عيسى، توقع أمس حدوث زيادات كبيرة في أسعار السلع نتيجة للأزمة الاقتصادية، وتوقف استيراد السلع وارتفاع الدولار. كذلك، توقّع زيادة نسبة التضخم خلال الشهر المقبل (بلغت نحو 70%)، لافتاً الانتباه إلى الأثر السلبي لطباعة العملة الجديدة على نسبة التضخم وزيادة الأسعار، إذ كشف بعض تجار السلع الاستهلاكية لصحيفة «السوداني»، أمس، عن أن «استقرار الأسعار» نسبياً في ظل تراجع كمية السلع الغذائية المطروحة بالأسواق، يعود إلى الركود وانعدام السيولة في الأسواق.

حل أزمات أخرى
وفي ظل الجمود الذي يعترى خطط الحكومة لحل الأزمات الثلاث، لجأ البشير إلى أزمات أخرى أقلّ ارتباطاً ببعضها البعض. إذ تعهد بتوفير مياه شرب نظيفة في المناطق الريفية في أنحاء السودان وفتح مستشفى جديد في المنطقة. كذلك، أعلن المنسق الرئيسي لـ«مشروع تطوير الزراعة والتسويق المتكامل»، المهندس محمد يوسف النور، اكتمال كافة الاستعدادات لانطلاقة المشروع في 13 محلية من محليات الولايات المختلفة في البلاد، ويستهدف 27 ألف أسرة فقيرة، مشيراً إلى أن الهدف الرئيسي للمشروع تعزيز الأمن الغذائي، وتخفيف وطأة الفقر للأسر الريفية في منطقة المشروع، من خلال الاستثمار في إنتاج المحاصيل والتسويق.
وخلال تجمّع في ولاية شمال كردفان، تطرق البشير أيضاً إلى تدشين طريق سريع طوله 340 كيلومتراً يربط شمال كردفان بأم درمان، قائلاً إن «بناء طريق كهذا ليس أمراً سهلاً في ظل ظروف السودان»، فيما أشار المدير العام لهيئة الطرق والجسور، جعفر حسن، إلى أن الأهمية الاقتصادية للطريق الذي أطلقت عليه الهيئة اسم «عميد الطرق»، تتمثل في مساهمته في الدخل القومي، خصوصاً في تنشيط الصادرات مع دول الجوار، وخلق فرص استثمارية. وبينما أعلن البشير أنه «مع هذا الطريق سنأتي بشبكة كهرباء لإنشاء بنية تحتية للتنمية»، أكدت وزارة الموارد المائية والري والكهرباء، حرصها على استقرار الإمداد الكهربائي، متوقعة دخول الربط الكهربائي المصري خلال شهر شباط/ فبراير الجاري بسعة 50 ميغاوات تتدرّج حتى تصل إلى 600 ميغاوات، ونقل «المركز السوداني للخدمات الصحافية» المقرب من الحكومة عن الناطق الرسمي للوزارة، إبراهيم يس شقلاوي، تأكيده أن التحضيرات لفصل الصيف بدأت منذ أشهر لمعالجة المشكلات المتعلقة بالتوليد والصيانات والخطوط والمفاتيح والمحولات والمحطات.

«احتواء» قبل الانتخابات
وبعد ساعات، توجه البشير إلى حشد آخر في قرية سراج بولاية شمال كردفان، حيث دعا الشباب والنساء للمساعدة في تنمية البلاد، قائلاً إن «الشباب الذين فتحنا لهم الجامعات عليهم الاستعداد ليواصلوا المسيرة ويبنوا السودان الجديد»، الأمر نفسه تطرق إليه مساعده فيصل حسن إبراهيم، أول من أمس، لدى مخاطبته تدشين «نفرة السبت الأخضر للنظافة وإصحاح البيئة» في ضاحية المنشية في الخرطوم، بالدعوة إلى «استنفار طاقات الشباب بشكل إيجابي»، لتساهم في البناء ومشروعات التنمية والتعمير وترقية جميع الخدمات، عبر إشراك الفئات الشبابية «بشكل مباشر في العمل تخطيطاً وتنفيذاً». محاولة البشير استرضاء فئة الشباب، التي تقود الاحتجاجات، بدت في توجيه المكتب القيادي لـ«المؤتمر الوطني» الذي يرأسه، أمس، إلى عقد «مؤتمر قومي لمناقشة قضايا الشباب»، ووضع المعالجات والحلول اللازمة لها، و«تحليل واقعهم». كما بدا ذلك في إعلان وزير رئاسة مجلس الوزراء، أحمد سعد عمر، أمس، خلال مخاطبته تدشين مشروعات التدريب الحرفي، البدء قريباً في تشغيل 160 ألف شاب وشابة، التي أجازها مجلس الوزراء أخيراً، في حين اعتبر وزير الدولة في وزارة الضمان والتنمية الاجتماعية، أحمد محمد كرار، أن البلاد بـ«أشد الحاجة لتفجير طاقات الشباب في الوقت الحالي».
يحاول الرئيس البشير من تهدئة الاحتجاجات، أولاً سحب البساط من تحت المعارضة، التي ركبت موجة الشارع ضده، وثانياً، الوصول إلى عتبة الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي. وهو أكد في أكثر من مناسبة، أن التظاهرات والاحتجاج لن تؤدي إلى تغيير الحكومة، واضعاً أمام المحتجين والمعارضة خيارين، إما القمع واستخدام العنف المفرط، أو انتظار صناديق الاقتراع. مساعده، فيصل حسن إبراهيم، أكد أمس خلال مخاطبته احتفالاً شمال كردفان في قرية سراج بتخريج حفظة القرآن الكريم، المضي قدماً في إجراء الانتخابات وفقاً للبرنامج المقرر بأن تكون في عام 2020. ونفى القيادي في «المؤتمر الوطني» الحاكم، عباس عبد السخي، الإشاعات التي أثيرت عن استجابة الحزب لضغوط دولية وأميركية، وامتناعه عن ترشيح البشير في انتخابات الرئاسة على خلفية اتساع حدة الاحتجاجات والمواكب التي تطالب بتنحيه.