في مواجهة الاحتجاجات المستمرة للأسبوع السابع على التوالي، يستمر الرئيس عمر البشير في إدارة الأزمة الأكبر في عهده، من خلال فرض قواعد اللعبة بالقوة، عبر مسارين: الأول انتظار موعد الانتخابات، التي شدد أكثر من مرة على أنها «السبيل الوحيد» لتغيير الحكومة، والثاني اعتماد لغة «الترغيب والترهيب» مع الشباب، الفئة الأكثر مشاركة في التظاهرات، سواء من خلال تقديم حلول للأزمة الاقتصادية، السبب الرئيس لاندلاع شرارة الاحتجاج، من دون ترجمتها على الأرض، والإقرار بمطالبهم، في محاولة لتحييدهم عمّا يعتبره مشروع «تآمر» خارجي يقوده «تجمع المهنيين السودانيين» المستقل (نقابي غير حكومي)، الذي ينظم التظاهرات، بدعم من المعارضة السياسية. لكن نظام البشير لا يزال حتى الآن يغفل عن تحول خطاب الحراك الشعبي الذي انطلق من طوابير الخبز والوقود والنقود، إلى المطالبة بـ«إسقاط النظام»، واعتماد الأخير شعاراً للتظاهرات المبرمجة أسبوعاً تلو آخر، في ظل استخدام قوات النظام العنف المفرط، الذي راح ضحيته أكثر من 50 متظاهراً بالرصاص الحي، وفق آخر تقديرات منظمة «هيومن رايتس ووتش» (30 شخصاً وفق الأرقام الرسمية).
وفي إطار جهوده للتخفيف من الأزمة الاقتصادية، التي يعزو جزءاً منها إلى العقوبات الأميركية التي فرضتها حكومات متعاقبة لعشرين عاماً (من عام 1997 حتى 2017)، ذهب البشير أمس إلى اتهام المصارف التي تتعامل بـ«صيغ ربوية»، وتتبع نظاماً غربياً علمانياً في إدارة الأموال، بـ«المتاجرة بالدولار». أما المصارف الإسلامية العاملة في السوق المحلية، فأعلن خفض نسبة مرابحة إلى 5 بالمئة بحد أقصى، مقارنة بـ 12 بالمئة. يأتي ذلك في حين تؤكد السلطات السودانية فيه أن شحّ الدولار في الفترة الأخيرة أدى إلى انخفاض قيمة العملة السودانية ومصاعب في توفير السلع، ما سبّب ارتفاع أسعار الكثير منها في الأسواق.
وخلال لقاء حول التمويلات المتناهية الصغر في مدينة الأبيض مركز ولاية شمال كردفان (جنوب)، أعلن البشير أمس رزمة إجراءات ضريبية واستثمارية لتحفيز الاقتصاد، تشمل إلغاء ضرائب، وتسهيلات استثمارية وإقراضية لتحفيز الاقتصاد المتراجع. وأكد أن حكومة بلاده ستستردّ الأراضي المخصصة لكبار المستثمرين، على أن يُعاد فرزها وتوزيعها على المشاريع المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر.
محاولات البشير لتبرئة ساحته من مسؤولية الأزمة الاقتصادية، يقابلها قمع مستمرٌ للتظاهرات، يضع المحتجين أمام خيار وحيد، هو الرضوخ لمطالبه التي تقود إلى انتظار الانتخابات المقبلة عام 2020، حيث يسعى إلى تجديد ولايته من خلال تعديل الدستور.
يعتزم البشير إعادة توزيع أراضٍ كانت مخصصة لكبار المستثمرين على المشاريع المتوسطة والصغيرة


وفي تظاهرات تجددت أمس في عدد من أحياء العاصمة الخرطوم، من الأزهري ومايو في الخرطوم، وحي العباسية في مدينة أم درمان، وحي شمبات في مدينة الخرطوم بحري (تتبع أم درمان والخرطوم بحري العاصمة السودانية)، فرقت قوات مكافحة الشغب المحتجين، مطلقةً الغاز المسيل للدموع على التظاهرات التي تجددت استجابةً لدعوة من «تجمّع المهنيين». ورغم ردّ الشرطة، واصل المحتجون الذين قدرت أعدادهم بين العشرات والمئات، ترديد عبارات «حرية، سلام، عدالة»، الشعار الذي رافق الاحتجاجات منذ انطلاقها في كانون الأول/ديسمبر الماضي، قبل أن تتحول إلى تظاهرات تدعو إلى تنحي البشير. وفيما لا تزال قضية مقتل المعلم أحمد الخير أثناء إجراءات التحقيق معه داخل مقر أمني تثير غضب الشارع السوداني، نقل ناشطون صوراً لوقفة احتجاجية نظمها معلمون احتجاجاً على مقتله في ولاية كسلا شرق البلاد.
تبدو جلية مساعي البشير إلى «تحييد» الشباب عن التظاهرات التي تقودها المعارضة، تارة بفزاعة انعدام الأمن و«معسكرات اللجوء» والفوضى، كما ردد في أكثر من مناسبة، أو بالتودد إليهم كما تتجه حكومته منذ أيام. فبعد وصف رئيس الوزراء معتز موسى، دعوات المتظاهرين بأنها «مشروعة»، السبت الماضي، قال وزير الدفاع، محمد أحمد ابن عوف، أمس، إن الشباب الذين «انخرطوا في الاضطرابات» لهم «طموح معقول»، من دون أن يتطرق إلى مصادر قلق المحتجين مباشرة، لكنه رأى أن الموقف في البلاد أظهر انفصاماً بين الأجيال الشابة والكبار.
وخلال إفادة مع ضباط في الجيش، رأى ابن عوف، وفقاً لبيان لوزارة الدفاع، أن الأحداث الأخيرة أظهرت «ضرورة إعادة صياغة الكيانات السياسية والحزبية والحركات المسلحة وتشكيلها للمشهد السياسي بذهنية مختلفة عما سبق»، من دون أن يشرح ماذا يقصد بإعادة الصياغة، فيما لم يُبدِ البشير أي إشارة إلى استعداده للتخلّي عن السلطة، مكتفياً بمطالبة معارضيه بالسعي إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب.