قبل ثمانية أعوام، انطلقت احتجاجات في ليبيا، بدأت من تظاهرة صغيرة في بنغازي طالب خلالها أهالي قتلى سجن أبو سليم بكشف مصير أبنائهم الذين ذهبوا ضحية مجزرة ظلّت لعقد وخمس سنوات سراً لا يعلم خباياه إلا النظام. ولاحقاً، انتشر الغضب تدريجياً مع تصاعد وتيرة التظاهرات والقمع المرافق لها، إلى أن اتخذ الأمر منحى خطيراً.لا يُعرف بالضبط كيف تمت عسكرة الاحتجاجات وتحويلها في اتجاه ثورة مسلحة، لكن المعروف هو إعلان المسؤول العسكري السامي في شرق البلاد، اللواء عبد الفتاح يونس، انشقاقه عن النظام، لتتوالى الانشقاقات السياسية خلال فترة قصيرة، بقيادة وزير العدل مصطفى عبد الجليل، الذي ترأس «المجلس الوطني الانتقالي»، وأيضاً العسكرية التي انتهت بتشكيل جيش جديد، وتعيين يونس قائداً له (قُتل الرجل بعد أشهر في ظروف غامضة).
تدحرجت كرة الثلج، واجتمعت إرادات داخلية وإقليمية ودولية على إسقاط القذافي، انتهت بإصدار حظر جوي على ليبيا، لكنه خُرق من قِبَل دول «التحالف الدولي» المسؤول عن تطبيقه، وعلى رأسه فرنسا، التي تحوّلت إلى مموّن للمقاتلين المحليين بالأسلحة، وتمّ كل ذلك بتغطية إعلامية إقليمية هائلة. لم تُكشف الكثير من تفاصيل هذا التدخل بعد، لكن صار معروفاً تأسيس غرف عمليات في دول الجوار، وإرسال مستشارين عسكريين من جنسيات مختلفة، إضافة إلى إدخال عربات عسكرية وعتاد من منافذ مختلفة، جنوباً وشرقاً وغرباً.
انتهى الأمر بقتل القذافي، لكن ذلك لم يكن إلا بداية مسلسل آخر، طويل ودامٍ. اختلفت مشيئات اللاعبين الإقليميين والدوليين حول مستقبل البلاد، فدعم كل منهم جهة محلية، وتفاقم كل ذلك بعجز السلطات الجديدة المنتخبة، متمثّلة في «المؤتمر الوطني العام» والحكومة المنبثقة منه، عن جمع سلاح الميليشيات التي استمرت في التكاثر.
انتشر السلاح في كل مكان، وبدأ المقاتلون الذين قاتلوا قوات القذافي سوياً في التفرق والتصدع على أسس مناطقية وأيديولوجية. لكن قبل ذلك، عملت شبكات على تهريب المؤن العسكرية في اتجاهات مختلفة، حيث وصل الكثير منها سوريا، وشق بعضها طريقه نحو غزة مع وقوع جزء مهم منها في أيدي «جهاديي سيناء»، كما قرر مقاتلون من الطوارق كانوا عملوا مع القذافي العودة إلى أزواد (شمال مالي) لتأسيس دولتهم، واصطدموا هناك بفرنسا التي خلقت أصلاً ظروف عودتهم وتسليحهم.
تحولت حكومة «الوفاق» من حل جامع إلى طرف في الصراع


محلياً، أخذت الأوضاع في التدهور، إذ صار «المؤتمر الوطني العام» يعمل تحت ضغوط من فاعلين مختلفين (ميليشيات، أنصار الفيدرالية، متطرفون، وغيرهم)، إضافة إلى انقسامه على نفسه. وصل الأمر عام 2014 إلى اتخاذ المجلس قراراً بالتجديد ذاتياً في عهدته، وهو ما رفضه جزء واسع من الأعضاء الذين اختاروا تنظيم انتخابات تشريعية جديدة. تمت الانتخابات وفق آلية الترشح الفردي، أي من دون قوائم حزبية، وشارك فيها عدد محدود من الناخبين، ما أفرز برلماناً هشاً اختار الانتقال إلى العمل في شرق البلاد.
مع بروز الانقسام السياسي، لم يتأخر الانقسام العسكري، إذ أعلن العسكري (المتقاعد حينها) خليفة حفتر، إطلاق «عملية الكرامة» في شرق البلاد، وذلك بعد انتشار الجريمة والاغتيالات السياسية والتطرف بشكل غير مسبوق. بدأت عملية حفتر في التصاعد، وحظي بدعم البرلمان، فردّ عليه خصومه الذين اعتبروه مبشّراً بدولة عسكرية، بإطلاق عملية «فجر ليبيا»، التي سيطروا خلالها على طرابلس وجزء واسع من غرب البلاد وجنوبها.
قاد كل ذلك إلى انقسام ليبيا إلى معسكرين، لكل منهما برلمانه وحكومته وجيشه، وبدأت جولة من المفاوضات والوساطات انتهى بعضها بفضائح (على غرار فضيحة المبعوث الدولي برناردينو ليون، الذي اتضح أنه تلقى وعوداً من الإمارات بتعيينه في منصب رفيع، وهو ما تم عام 2015 بعد استقالته من مهمته الدولية). نهاية عام 2016، تم التوصل إلى اتفاق مصالحة وُقِّع في مدينة الصخيرات المغربية، يقضي بتشكيل مجلس رئاسي يُشرف على عمل حكومة وفاق وطني، والإبقاء على البرلمان، وإنشاء هيكل استشاري جديد باسم «المجلس الأعلى للدولة» بدل «المؤتمر الوطني العام».
بداية عام 2017، دخلت الحكومة التي يرأسها فائز السراج إلى طرابلس، وعُيّن بعدها غسان سلامة مبعوثاً دولياً جديداً. تبيّن لاحقاً أن الاتفاق ليس محل إجماع، إذ فشل البرلمان في إقراره والاعتراف بحكومة «الوفاق»، ما أدى إلى الإبقاء على حكومة مؤقتة غير معترف بها دولياً وجيش يقوده حفتر في شرق البلاد.
تحولت حكومة «الوفاق» إذن من حلّ جامع إلى طرف في الصراع. وعلى رغم اللقاءات الكثيرة بين السراج، ورئيس البرلمان عقيلة صالح، وحفتر، استمر الوضع على ما هو عليه، مع تطور وحيد هو توقف الاشتباكات المسلحة المباشرة بين هؤلاء الفاعلين.
العام الماضي، حاول غسان سلامة ترتيب استفتاء على الدستور الجديد (الذي يحوي بنوداً خلافية) وانتخابات تشريعية ورئاسية، ودُعم دولياً في مؤتمر عُقد في باريس، ثمّ في مؤتمر آخر عُقد في باليرمو الإيطالية، لكن من دون جدوى. الآن، يركز سلامة على عقد «ملتقى وطني» في ليبيا، يكون تتويجاً للقاءات محلية كثيرة تمت العام الماضي، وترتيب بقية المسار الاقتراعي قبل نهاية العام، لكن المعوقات كثيرة.
خلال الأشهر الأخيرة، وكلما اقتربت البلاد من تحقيق بعض الاستقرار، طرأ حدث يعيد الصخرة إلى حافة الجبل: حربان في طرابلس بين ميليشيات أدتا إلى قتل وجرح المئات، وهجومان على أكبر مرافئ تصدير النفط، وانقسام وتنافس أوروبي بين إيطاليا وفرنسا حول إدارة الملف، وحالياً حملة عسكرية في الجنوب أطلقها حفتر لمدّ نفوذه هناك، قادت إلى توتير علاقته الهشة بحكومة «الوفاق». في الظروف الحالية، صارت مهمة سلامة أصعب من أي وقت مضى، خصوصاً في غياب توافق دولي وإقليمي حول ضرورة إيجاد حل سلمي للانقسام، ما يهدد بأن يكون هذا العام مجرد حلقة أخرى في سلسلة خيبات البلد.