يخرج المتصفح للوثائق التي نشرتها وسائل إعلام إسرائيلية أمس، بانطباع شبيه لذلك الذي يتولد لديه أثناء مشاهدة الفيلم الأميركي «آرغو»، وهو فيلم يروي قصة تخليص مجموعة من عملاء الـ CIA من إيران بعيد انتصار الثورة الإسلامية.
الوثائق، التي تقرر الكشف عنها عشية الذكرى الـ 35 للثورة، تُسلط الضوء على آخر أيام الوجود الإسرائيلي في إيران، وتعرض بما يشبه الدراما الاتصالات التي سبقت عملية تهريب أفراد بعثة تل أبيب الدبلوماسية من هناك. وتقدم الوثائق قراءة تسلسلية للأحداث، وتعود في التاريخ إلى عام 1962، حين «لم يكن أحد في إسرائيل قد سمع برجل الدين من مدينة قم الذي كان سيغير الشرق الأوسط لأجيال»، إلى درجة أن إحدى البرقيات التي أرسلتها السفارة الإسرائيلية في طهران إلى تل أبيب وتضمنت تقريراً حول آية الله الخميني استخدمت الأحرف اللاتينية لكتابة اسمه. إلا أن طاقم السفارة سرعان ما تعلم لفظ الاسم جيداً، حين «شد رجل الدين الشيعي الاهتمام من خلال التعاطف الذي حصل عليه من أتباعه والتصريحات القاسية ضد الشاه والولايات المتحدة وإسرائيل»، فأدرك السلك الدبلوماسي الإسرائيلي في طهران أن الخميني «شخصية مفتاحية».
تتحدث برقية ثانية بتاريخ 9 حزيران 1963 عن التظاهرات التي خرجت ضد الشاه والإصلاحات التي أقرتها حكومته في إطار إحياء عاشوراء. وتشرح البرقية كيف رفعت في هذه التظاهرات لافتات وشعارات ضد إسرائيل، مشيرة إلى أن الشخصية الرئيسية في تنظيم هذه التظاهرات هو «المتعصب الديني الخميني». وفي نهاية تشرين الثاني من العام نفسه، بعد إطلاق آية الله الخميني من السجن وعودته إلى قم، بعثت السفارة ببرقية توضح فيها أن «الخميني عندما خرج من السجن حصد تعاطفاً أكبر وسط الجماهير المتعصبة الأمية، وخصوصاً في أوساط البازار، وفي المدن المقدسة». وتضيف البرقية «الخميني تحول فعلياً إلى بطل حين نجح في فرض شروطه على السلطات، إذ إن رئيس الحكومة الضعيف والجبان حاول بكل الطرق التقرب منه وتحييده». وأرفقت السفارة ببرقيتها ترجمة لأحد البيانات التي كان الإمام الخميني قد نشرها ويتهم فيه السلطات ببيع إيران للإمبريالية الأميركية.
وبعدما أُبعد الإمام الخميني من إيران إلى العراق في تشرين الثاني 1964، توقفت السفارة عن إرسال تقارير حوله، واستمرت في ذلك حتى عشية انتصار الثورة أواخر سبعينات القرن الماضي. وخلال هذه الفترة، كانت العلاقات بين إسرائيل وإيران قد توثقت على نحو كبير وأنتجت مد خط لأنابيت النفط وتعاوناً في إدارة التمرد الكردي في العراق. وفي حزيران عام 1978، وعلى خلفية التظاهرات اليومية ضد نظام الشاه، أرسل السفير الإسرائيلي في طهران آنذاك، أوري لوبراني، بمذكرة إلى وزير الخارجية، موشيه ديان، شرح فيه الوضع في إيران، معرباً عن تقديره بأن الشاه سيسقط في غضون خمسة أعوام. وكتب لوبراني «إن الهيجان (الشعبي) الذي نشهده مرده إلى عدم رضى عموم الجمهور الإيراني، بدءًا من الموظفين الكبار وانتهاءً بعامة الشعب»، وأضاف «لقد بدأ مسار اهتزاز لا عودة عنه لمكانة الشاه، ومن شأن هذا المسار أن يؤدي في نهاية المطاف إلى سقوطه وإلى تغيير دراماتيكي في صورة الحكم الإيراني».
وفي ما يتعلق بالعلاقات بين إيران وإسرائيل، رأى السفير الإسرائيلي في مذكرته أن «التداعيات التي يمكن أن تنشأ عن ذلك خطيرة»، مشيراً إلى الأضرار التي ستلحق بتزويد إسرائيل بالنفط الإيراني وبالعلاقات التجارية والمشاريع الأمنية المشتركة بين الجانبين، إضافة إلى تحول «الجالية اليهودية إلى أحد الأهداف الرئيسية للتنكيل». وبعد وقت قصير من ذلك، بعث لوبراني بمذكرة أخرى، يعرض فيها مضمون لقائه نائب قائد الشرطة الإيرانية، جعفري، الذي قال إنه يقدر أن نظام الشاه على شفير الانهيار. وكتب لوبراني «لقد ذكر أنه شخصياً (جعفري) يضغط على قائد الشرطة ليقدم إلى الشاه تقديراً حقيقياً للأوضاع، لكنه يخاف من القيام بذلك». وفي أيلول 1978 التقى لوبراني، الذي كان على وشك إنهاء خدمته في طهران، بالشاه، وقدم تقريراً عن اللقاء يقول فيه إن الانطباع الذي تكوّن لديه جراء اللقاء «صعب على نحو خاص». وكتب موضحاً «وضعه النفسي مكتئب، وهو يطبع بسمة على شفتيه بصعوبة. إنه عصبي وشارد الذهن. سألته كيف يرى التطورات الحاصلة، فأجاب برفع كتفيه. ليس لديه فكرة واضحة».
ولفت لوبراني إلى أنه عرض أمام الشاه مخاوفه بشأن الجالية اليهودية، مشيراً إلى أن الأخير «سكت لحظة، ثم قال إنه من المهم جداً أن يدرك الأميركيون حقيقة الوضع هنا، وإذا لم يدركوا، فليقولوا للروس أن يرفعوا أيديهم عن إيران، عليكم أن توضحوا ذلك لهم». يمضي لوبراني في تقريره موضحاً «لكني قلت إنه بحسب علمي نحن نفعل ذلك حالياً»، ويلخص اللقاء بالقول «هو ليس نفس الشخص الذي كنا نعرفه، فهو بعيد، وأحياناً مشتت. لا شك أن الرجل قد مر بكابوس. إنه مليء بالمخاوف، وليس واثقاً حيال المستقبل. والأكثر إثارة للقلق هو الشعور بأن الرجل يبدو كمن سلّم بقدره».
وتصف وثيقة أخرى تحمل تصنيف «سري للغاية»، وزّعها في حينه قسم الشرق الأوسط وحوض المتوسط في وزارة الخارجية الإسرائيلية، كيف ازدادت قوة الإمام الخميني وتأثيره السلبي على العلاقات الإيرانية والإسرائيلية. ومما جاء فيها «إن تصريحات الزعيم الديني المتطرف خميني حول الموضوع الإسرائيلي تحولت في الفترة الأخيرة إلى شديدة القساوة. فهو يرى أن جنوداً إسرائيليين يساعدون الشاه، وأن الإسرائيليين يأتون إلى إيران ليحلوا مكان العمال المضربين في صناعة النفط، لذلك فإن دمهم مباح».
ومع عودة الإمام الخميني من منفاه إلى إيران في أول شباط 1979، أرسلت السفارة الإسرائيلية برقية إلى تل أبيب تقريراً جاء فيه «الخميني حط هذا الصباح في طهران، وكان في استقباله ما بين نصف مليون إلى مليوني شخص». يضيف التقرير «الحملة ضد الأجانب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وإسرائيل ستتواصل بهدف الدفع إلى ترحيلهم. يجب الافتراض أن (شركة الطيران الإسرائيلية) إل عال ستضطر إلى وقف رحلاتها إلى إيران قريباً، ومن شبه المؤكد أن القوانين الإسلامية ستفرض بمزيد من التشدد خلال الأيام القادمة».
وبعد ذلك، تشرح وثيقة تعرض مبنى السفارة الإسرائيلية للاقتحام، وتقول «نعلمكم أن الاقتحام الذي تداولته هذا الصباح وكالات الأنباء وقالت إن مبنى الممثلية التجارية الإسرائيلية تعرض له، إنما كان لباحة السفارة ولغرفة الاستقبال الخارجية فيها. لم تقع إصابات، لكن إذا سئلتم عن المستقبل، أجيبوا رجاء بأنكم لا تعرفون». بعد ذلك، أرسلت وزارة الخارجية برقية إلى بعثتها في طهران تحت عنوان «تهريب أفرادنا من إيران»، تشرح فيها محاولات الإنقاذ التي تبذلها. وبحسب نص البرقية «السفارة الأميركية في طهران لديها تعليمات للقيام بكل ما يمكن من أجل المساعدة على تهريب أفرادنا. التعليمات هي أن يحاولوا إعطاء الأولوية لتسفيرهم جواً. يجب أن نأخذ بالحسبان أن الأميركيين لا يملكون حالياً وسائل اتصال مشفرة. يجب الحرص على عدم استخدام اتصال علني مع أفرادنا، في ما يتعلق بموضوع التهريب».
وفي غضون ذلك، توضح إحدى البرقيات الأخيرة كيف طلب مسؤول في الخارجية الإيرانية السفير الإسرائيلي «المغادرة بأسرع ما يمكن... ورداً على سؤالي، أوضح المسؤول أنه يجب أن نعدّ ذلك قطعا للعلاقات...وقد طلب منا تسليمه لائحة بأسماء كل الإسرائيليين وصورهم وأنشطتهم، فقلت له إننا لا نملك صوراً». بعد ذلك بوقت قصير، عممت وزارة الخارجية تقريراً أفادت فيه بأن «طاقمنا في طهران أبلغنا للتو أنهم تبلغوا بأنه سيجري إخلاؤهم جميعاً غداً». وفي أعقاب الإخلاء، بعث رئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيغين، برسالة إلى الرئيس الأميركي، جيمي كاتر، يشكره فيها على «العملية المعقدة والصعبة» التي نفّذتها إدارته لإخراج الإسرائيليين من إيران «ضمن ظروف خطرة».