الضفة الغربية في التاسع من كانون الأول 2013، وقّع كل من الأردن والسلطة الفلسطينية وإسرائيل في مقر البنك الدولي في واشنطن اتفاق قناة «البحرين» لربط البحرين الأحمر والميت. تضمن الاتفاق مدّ أربعة أنابيب بين البحرين يصل طولها إلى 180 كلم، وستنقل مئة مليون متر مكعب من المياه سنوياً من البحر الأحمر إلى البحر الميت، لإنقاذ الأخير من الجفاف بحلول عام 2050، كذلك يقضي بإقامة محطة تحلية عملاقة للمياه في مدينة العقبة في الأردن لتوزيع المياه المحلاة على الأطراف الثلاثة، بحسب البيان الصحفي الذي نشره البنك الدولي حول القناة باللغتين الإنجليزية والعبرية.

القناة المائية: الطريق الأقرب لازدهار النقب

قال دافيد بن غوريون مؤسس الدولة العبرية، في خطاب معنى النقب في 17 كانون الثاني 1955: «إن صحراء النقب هي مهد أمتنا، منطقة خطيرة في ضعفها في الدولة، ورغم ذلك فإنها أملنا الأكبر... حتى الجواسيس الذين أرسلهم موسى لاستكشاف البلاد، كانوا قد بدأوا دربهم من النقب… وذلك قبل إكمال مسيرتهم إلى الخليل»، مضيفاً: «صحراء النقب هي المساحة الأوسع والأكثر فراغاً في البلاد، وعليه فإن من الخطر جداً أن تتسامح دولة إسرائيل مع وجود صحراء في داخلها، فإذا لم تلغ الدولة تلك الصحراء، فستلغي الصحراء الدولة... إسرائيل هي إحدى الدول القليلة في العالم التي تملك منافذ مائية إلى المحيط الهادئ عبر البحر المتوسط، وإلى المحيط الهندي عبر البحر الأحمر». انطلاقاً من خطاب بن غوريون حول النقب، الذي تحوّل في ما بعد إلى وصية يجدر بتلاميذه اللاحقين تحويلها إلى خطط ذات صيغة عملية تضمن تحويل تلك الصحراء إلى أحد الأجزاء الأكثر ازدهاراً في تاريخ الدولة العبرانية (التوراتية)، لا يمكننا إغفال مخططات الترحيل والاستيطان الكامنة وراء الخطاب ووراء التوقيت الذي أعلن فيه توقيع قناة «البحرين». وبناءً على هذا، فإن التفسير الأقرب الذي يجمع ما بين الخطاب والاتفاقية، وإن كان الفارق الزمني بين الاثنين يقارب 60 عاماً، هو الآتي:

الترحيل جوهر الصهيونية

عملية إعادة إحياء الصحراء والتركيز على تلك العملية في سبيل تحقيق جوهر الصهيونية الذي يجسده رحبعام زئيفي، عضو الكنيست اليميني، ومؤسس حزب موليدت المتطرف، الذي كان وزيراً للسياحة عندما اغتيل في تشرين الأول 2001 في قوله: «الصهوينة في جوهرها هي صهيونية الترحيل. ترحيل الأمة اليهودية من الشتات إلى إسرائيل، وفصل الشعبين كي يكفا عن قتل أحدهما الأخر». ضمن هذه الثوابت، تعمل الحكومة الإسرائيلية على جلب اليهود للاستيطان في النقب ليكونوا بمثابة مكون ديموغرافي حائل وواقي أمام سكان الأرض الأصليين، أي سكان النقب الفلسطينيين، الذين تعرضوا منذ إقامة الدولة العبرية لثلاث موجات من التهجير والاقتلاع، كان آخرها مخطط «برافر» الذي أُعلن إلغاؤه في سبيل أن يُدمَج مع مخططات قناة «البحرين»، وبالتالي تشريعه من قبل المجتمع الدولي والممثل بالبنك الدولي وممولي القناة (الولايات المتحدة الأميركية ـ فرنسا ـ اليابان ـ هولندا) أولاً، والسلطة الفلسطينية والحكومة الأردنية ثانياً.
في الواقع، إن جذور خطاب بن غوريون حول النقب وأهمية المياه تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية (1939)، حيث بدأت الحركة الصهيونية بالتخطيط لمشروع نقل المياه من بحيرة طبريا ونهر الأردن إلى مراكز السكان، بما في ذلك النقب، ويعرف هذا المشروع باسم «هاميوفيل هارتسي» أي النظام الناقل للمياه، الذي استمر العمل به 16 عاماً (1948- 1964).
في كانون الأول من عام 2005، أي بعد مرور ما يقارب 50 عاماً على خطاب معنى النقب، أُعلن في إسرائيل إنشاء وزارة تطوير النقب والجليل التي رأسَها في ذلك الحين شيمون بيبرس. ومن أهم أهداف تلك الوزارة، حسبما أُعلن في وقته: إيجاد العمل والتصنيع، المسكن والاستيطان، التربية والتعليم في النقب والجليل، وزيادة عدد المستوطنين في النقب من 535 ألفاً في عام 2005 ليصل إلى 900 ألف بحلول عام 2015. وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل تتعامل مع الأراضي في النقب على أنها ملكية للدولة، ويمكن شراؤها عبر صندوق الأراضي الإسرائيلي للاستثمار في القطاع الزراعي.

«ستارت أب» ـ استيطاني في النقب والجليل

يقول المدير العام لحركة «أور» الاستيطانية، روني بلمار: «نحن بصدد ستارت ـ أب استيطاني، هدفه توجيه العائلات للسكن. أنا سعيد لهذا التعاون الذي يؤكد أن حكومة إسرائيل تريد أن تحقق حلم بن غوريون بتوسيع الاستيطان في النقب». بدوره بارَك رئيس بلدية بئر السبع، روبيك دنيلوفيتش الخطوة، وقال: «معاً سنحوّل النقب إلى منطقة سكنية جذّابة».
ويعمل مركز «أور» على جمع التبرعات لإنشاء المستوطنات في النقب، ويوضح القائمون عليه أن هذا التعاون سيؤدي في نهاية المطاف إلى «تقوية نشاطات الاستيطان، ومرافقة العائلات التي تريد أن تستوطن في النقب». وتعمل هذه الحركة على إحضار 300 ألف عائلة يهودية إلى النقب حتى عام 2020. وأكدت الحركة أنّ «هذا التعاون سيؤدي إلى تحقيق الهدف النهائي»، حيث إن مركز الاستيطان في النقب كان قد أُسِّس قبل عشر سنوات بواسطة حركة «أور» التي تصف نفسها بأنها «جسم قومي (يهودي) لتشجيع الاستيطان». وتقول الحركة الاستيطانية إنها رافقت 30 ألف عائلة حتى اليوم، بينها 6000 عائلة انتقلت للسكن بالفعل في الجليل والنقب ما بين الأعوام 2010-2013.
ولاكتمال مخططات الاستيطان الخاصة بالنقب التي أُعلنت في 2005، صدّق مجلس الوزراء الإسرائيلي في أيار 2013 (أي قبل توقيع اتفاقية قناة البحرين) على خطة لـ«تطوير» النقب في إطار استثمار نحو نصف مليار شيكل على مدى خمس سنوات، وذلك بموازاة «نقل عدد من أكبر قواعد الجيش إلى النقب»، حسب القرار.
وكانت لجنة مشتركة لعدة وزارات، برئاسة المدير العام لديوان رئاسة الوزراء هرئيل لوكير، والمديرة العامة لوزارة تطوير النقب والجليل أورنا هوزمان - بيخور، قد وضعت «الخطة القومية لتطوير النقب» التي سيسري مفعولها ما بين عامي 2013 ـ 2017.
وتستهدف الخطة تطوير النقب في إطار الاستعدادات الجارية لنقل قواعد الجيش الإسرائيلي ومعسكراته إلى المنطقة، منها نقل قاعدة «27» الجوية إلى قاعدة نفاتيم، ونقل مدينة القواعد التدريبية إلى مفرق النقب والاستعداد لنقل مجمَّعيْ قواعد المعلوماتية والاستخبارات إلى منطقة «ليكيت» بين اللقية وبلدة عومر، وقد وُضعت الخطة بناءً على تكهنات تفيد بزيادة مجموع النشاط الاقتصادي الجاري في النقب بمبلغ يراوح بين 1.4- 1.7 مليار شيكل حتى عام 2020.
بدوره قال وزير تطوير النقب والجليل وزير الطاقة والمياه سيلفان شالوم (الطرف الممثل لإسرائيل في حفل توقيع اتفاقية قناة البحرين) إن وزارته ستتولى المسؤولية عن إدارة قرار الحكومة وتطبيقه.
وأكد أن القرار سيقدم إسهاماً نوعياً في الثورة التي يشهدها النقب خلال السنوات الأخيرة؛ لأنه أصبح يستقطب الشرائح السكانية القوية ويتنامى باطّراد.
هكذا تتوافق التشريعات والخطط التنموية مع تصريحات المسؤولين في إسرائيل لتتحول في ما بعد إلى مبادرات مدفوعة تهدف إلى زرع أكبر عدد ممكن من المستوطنين الصهاينة في النقب، لكي لا ينقلب النقب على حلم الدولة، ويصبح كابوساً لا يمكن التخلص منه. ففي 19 كانون الثاني 2014 بادرت «وزارة تطوير النقب والجليل» الإسرائيلية إلى إعلان إعفاءات وتقديم مساعدات مالية لكل شخص يقوم بشراء مأوى جديد أو بيت في النقب والجليل. وجاءت هذه المبادرة لتشجيع المواطنين واستيعابهم من مركز إسرائيل للاستيطان في النقب والجليل ومن جانب آخر، لمنع الهجرة المحلية من النقب والجليل إلى مركز إسرائيل، حسب بيان الوزارة. وتقضي المبادرة باعتماد جملة إجراءات لتشجيع الشبان والعائلات الشابة على الانتقال للسكن في النقب من خلال زيادة مشاريع السكن المتوافرة وزيادة المعروض الثقافي والترفيهي في النقب، وهو ما يتوافق مع نشاطات وخطط حركة أور الاستيطانية.

أراضي الأغوار خارج السيطرة الفلسطينية

الإجراءات الإسرائيلية التي تُتَّخَذ ضد السكان الفلسطينيين في الأغوار ليست جديدة، ولم تتزامن فقط مع طروحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري في ما يتعلق بعملية السلام بين الجانين الفلسطيني والإسرائيلي، بل تزامنت شدتها مع إعلان إنشاء وزارة تطوير النقب والجليل، تهدف إلى تفريغ الأغوار من الفلسطينيين، وبالتالي زيادة مساحة الأراضي المخصصة للاستيطان الصهيوني في الحزام المحيط بالبحر الميت. ففي المنطقة الممتدة من غور الأردن حتى شمال البحر الميت، أقام الجيش الإسرائيلي خلال السنوات الأخيرة سبعة حواجز ثابتة، أربعة حواجز منها حول منطقة أريحا. وخلال عام 2005 شدد الجيش الإسرائيلي بصورة ملحوظة من القيود المفروضة على مرور الفلسطينيين من هذه الحواجز.
ولمنع الفلسطينيين من المكوث في منطقة الأغوار، يجري الجيش الإسرائيلي عمليات دهم وتفتيش ليلية لبيوت سكان قرى الأغوار للتفتيش عن فلسطينيين ليسوا من أهل الأغوار ويُنقلون إلى ما وراء الحواجز العسكرية أو يسلَّمون للشرطة الإسرائيلية للتحقيق معهم، بعد أن يكتب على بطاقات الهوية الخاصة بهم «صودرت لمكوث غير قانوني في مناطق الغور».
مع نهاية عام 2012 استطاعت إسرائيل إتمام عملية فصل القطاع الشرقي من الضفة الغربية الذي لا يشمل فقط المناطق المحاذية لنهر الأردن، ولكن يشمل هذا القطاع غور الأردن ومنطقة شمال البحر الميت والمنحدرات الشرقية لجبال الضفة، عن سائر مناطق الضفة الغربية. تتوافق هذه العملية مع الخطة التي أعدها الجهاز الأمني الإسرائيلي ونشرتها صحيفة «هآرتس» في 7 آذار 2006، والتي تنص على ضرورة إدراج منطقة غور الأردن في التصورات الإسرائيلية الرسمية ضمن سيناريو أشمل يبحث مصير الضفة الغربية أو الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية من خلال إعادة انتشار على «خط دفاعي» جديد في أعماق الضفة الغربية بضم غور الأردن ونقاط رئيسية على المنحدرات الغربية للضفة الغربية. ترى الخطة التي أعدها الجهاز الأمني الإسرائيلي أهمية قصوى في السيطرة على نقاط استراتيجية على المرتفعات الجبلية وعلى حزام في غور الأردن يمتد من شمال البحر الميت وحتى شمال الغور، وتشدد الخطة على أن هذا الحزام يجب أن يكون واسعاً بما يكفي لتوفير الدفاع الفعال، وضيقاً بما يكفي لتمكين السلطة الفلسطينية من الامتداد مستقبلاً نحو الشرق، بالإضافة إلى أهمية السيطرة على الأحواض المائية الجوفية في الضفة الغربية، وخاصة الأحواض الشرقية منها، نظراً إلى أهميتها في تنمية المنطقة. وأخيراً، العمل على خلق وفرض نوع من الفصل الجغرافي بين الفلسطينيين في الضفة الغربية والفلسطينيين في الأردن الذين يمثلون عمقاً ديموغرافياً لأي كيان فلسطيني قادم. وفي هذا السياق يجدر التوضيح أن الحديث عن أي نشر لقوات الناتو في الأغوار، ليس أمراً خاضعاً لثنائية الرفض والقبول الفلسطيني (الرسمي)، وذلك لأن الأغوار من ناحية عملية قد ضُمَّت كاملاً إلى السيطرة الإسرائيلية في عام 2012، وبناءً عليه لا يمكن الحكومة الإسرائيلية أن تعطي المجال للفلسطينيين بالتفاوض أو الحديث عن قوات للناتو في مناطق هي بالأصل تحت سيطرتها من الناحيتين الأمنية والقانونية (الإسرائيلية). كذلك كيف يمكن قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي السماح بوجود قوات دولية كبديل لقوات جيش الاحتلال، وهو الأمر الذي يعكس أن موضوع قوات الناتو ليس أكثر من فقاعة إعلامية تهدف إلى تحييد الأنظار عن حقيقة وقوع الأغوار تحت السيطرة الإسرائيلية منذ عام 2012، دون أن يثير الطرف الفلسطيني أي زوبعة من هدفها إخراج تلك الحقيقة إلى السطح لتصبح قيد التداول المحلي على أقل تقدير.

البنك الدولي ورعاية الاستيطان

من بين الأمور التي درسها البنك الدولي موضوع الملاءمة ما بين المشروع من ناحية بيئية ـ اقتصادية وما بين الطموحات السياسية لكل من السلطة الفلسطينية والأردن من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى. حيث خلص أحد تقارير البنك الدولي المنشورة عام 2006 إلى أن تحويل كميات كبيرة من المياه من خليج العقبة (إيلات) عبر الأردن، ومن هناك إلى البحر الميت هو أمر بالغ الأهمية لكي يُحافَظ على القيمة الاقتصادية (السياحية بما في ذلك المعادن والخ) للبحر الميت (أُشير أول مرة إلى مشروع قناة البحرين عام 2002 في جوهانسبورغ، وأبدت السلطة الفلسطينية في ذاك الوقت دعمها للمشروع). إقرار البنك الدولي بأهمية المشروع، لإنتاج ما يكفي من مياه وكهرباء لإسرائيل، رغم ادعائها أن المشروع سيفيد الأردن والسلطة الفلسطينية، يُعَدّ رعاية ذات طابع دولي لكافة المشاريع الاستيطانية في النقب والأغوار، القائمة على حلم إعادة إحياء الصحراء. وإلى أن تكتمل مشاريع البناء الاستطياني، من المتوقع ترحيل ما يقارب 90 ألف فلسطيني من صحراء النقب، وما يقارب نحو 47 ألف نسمة من سكان الأغوار الفلسطينيين بحلول عام 2020.




السلطة الفلسطينية توقع بلا ضمانات حقيقية

بعد توقيع اتفاق قناة «البحرين» بثلاثة أيام، نُشرت تصريحات منسوبة إلى أشخاص مقربين من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، تفيد بأن موافقة السلطة الفلسطينية على توقيع هذا المشروع جاءت بعد ضغوط من الولايات المتحدة الأميركية التي ربطت البدء بالمشروع، برزمة المنح الاقتصادية التي وعدت بها السلطة الفلسطينية، الأمر الذي جاء خلافاً لموقف منظمة التحرير السابق القاضي بعدم الاتفاق على أية مشاريع على الأرض قبل الاتفاق السياسي.
وقد طلب الفلسطينيون في إطار البرنامج الحصول على بؤرة سكنية في شمال البحر الميت، في منطقة عين الفشخة، لكن سلطات الاحتلال رفضت ذلك، فيما سيحصل الفلسطينيون على 30 مليون متر مكعب من مياه بحيرة طبريا، مياه محلاة أو عذبة بسعر الإنتاج.
وتكمن خطورة المشروع ـ حسب المصادر ـ في إصرار إسرائيل على شرطها بالسيطرة الكاملة على المشروع المشترك بين الأردن والسلطة الفلسطينية والطرف الثالث إسرائيل، كذلك فإنها تصر على أن تكون مسيطرة على عمليات بيع المياه.