على الغلاف | يوم كانت حياة الناس رخوة، في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، كان غارو طاشيجيان يسافر موسمياً إلى شمال سوريا وشرقها. يعود إلى شارع مرعش في برج حمود بعد يومين أو ثلاثة من سفره. تكون بانتظاره «نسوة الحيّ» لمعرفة ما ستحمله سيارته الـ«بيجو 404» من زوّادة سنوية، وهل حظي بكمية من البامية المجفّفة في دير الزور؟ كم هو سعر الزعتر وربّ البندورة والفستق من حلب وريفها؟ وماذا عن صلصة الحر من منطقة الباب شمال الريف الحلبي، والتين المجفّف والزبيب من أريحا، والزيتون الإدلبي؟
يروي سكان الشارع أن «café garo» كان مقصداً لشراء الغذاء الآتي من سوريا، وأنه، لهذا السبب، تحوّل إلى نقطة استدلال في مرعش. صيغة العنوان: إلى يمين «كافيه غارو» أو يساره أو في مقابله. بهذه الطريقة كان التجار السوريون، أيضاً، يستدلّون على الدكاكين. مع نهاية الثمانينيات، توقف سفر غارو إلى سوريا. تشير ابنته آزاد إلى أن السلع صارت تأتي بعد طلبها عبر الهاتف، أو عبر صفقات سريعة يتم عقدها مع التجار السوريين: «يعرفون البضائع التي يريدها التجار هنا، يحضرون إلى المتاجر ونشتري منهم بالكميات التي يتحملها السوق».
لا حاجة إلى دليل للوصول الى شارع مرعش. رائحة البهارات والتوابل المنبعثة من متاجره البسيطة تتولى الأمر، بمجرد الدخول إلى أزقة برج حمود. نحو ثلاثة أعوام من الحرب في سوريا، لم تبدّل وجه الشارع، بقدر ما خفضت كمية المنتوجات السورية التي تعيش عليها دورته التجارية جزئياً. بقي الشارع رقيقاً، لا يشبه الحرب، وإن كان كل ما يحتضنه، على ضيق مساحته، يدلّ إليها. سلع تركية تزاحم سلعاً سورية توقّف إنتاجها خلال الأزمة، وسلع سورية صامدة. نازحون من أرمن حلب، فرّوا مذعورين من تكبيرات منتصف الليل، المرافقة للرصاص والوعيد بالذبح في حي «الشيخ مقصود» المجاور لأحيائهم. جبنة شِلل ومجدولة من حماه، تمتلئ بها البرادات. ما زالت الشاحنات التي تقلّها، تعبر طرقات الحرب في سوريا إلى لبنان. لا تصادرها حواجز الجيش ولا المجموعات المسلحة من تنظيمات متشددة و«معتدلة». حافظ بعض التجار السوريين على بعضٍ من نفوذهم. لكن أحوال تجار مرعش ليست على ما يرام. الفارق في البضائع والمدخول كبير، بين زمن السلم وزمن «الثورة».
هكذا، وبعد «الثورة»، دخل السوق مرحلة جديدة لها شروطها في مرعش. يبدو نرسيس الحلبي متقناً لها. لم ينقطع منتوج من دكانه، إلا لأنه انقطع في ريف حلب. يبيع ربّ البندورة من ماركة تركية. هذا مفاجئ في منطقة أرمنية! تبيع آزاد في متجر والدها ربّ الحرّ من ماركة تركية أيضاً. عادة المصالح التجارية أن تتجاهل المبادئ والمعتقدات والشعارات الضخمة. لكنْ لآزاد شرح آخر مرتبط بالقضيّة الأرمنية. تستوي على مكتب قديم وتشرح: في لواء الاسكندرون منطقة اسمها مرعش. سمّي هذا الشارع باسمها. يتم استيراد الحر وربّ البندورة ودبس العنب من عنتاب، المنطقة التي يسميها الأتراك غازي عنتاب، وهي أيضاً في الاسكندرون، إضافة إلى مناطق أورفا وأضنة وبيرجيك: «كلها مناطق أرمنية هَجّرَنا منها الأتراك. نحن نشتري من أرضنا المسلوبة». إذاً، البضائع أرمنيّة. ما يعزّ عليها أكثر هو جبل أرارات وماسيس «فليعيدها الأتراك لنا وليأخذوا مناطق الاسكندرون. أرارات رمزنا، وله في كل بيت من بيوتنا صورة وتمثال. نذهب إلى أرمينيا، نراه من الحدود ولا يمكننا زيارته». زيارة مرعش في ساعة الذروة تحتّم تأجيل الأسئلة، ريثما تتم خدمة الزبائن. زحمة على البهارات والسمّاق والجبنة الحموية. يختلط في الأنف عطر النسوة بعطر المتجر، وكلاهما يحظى بالرهافة ذاتها. سيسمع الداخل أسئلة عن أسعار. يتدلى الباذنجان والفليفلة والحرّ المجفف كحبال من الأضواء الملونة، وهي موجودة دائماً، لكثرة استخدامها في المطبخ الأرمني. المسافة بين براميل البهار الصغيرة تضيق بأقدام الزبائن. يبدي خاتشيك أوكسزيان سعادته بهم، وبهنّ على وجه الخصوص. خاتشيك شاب أرمني حلبي، لا تفارق الضحكة وجهه البيضاوي الأبيض، وتشتد عندما تطلب منه زبونة لائحة مشتريات، يسمح وقت إعدادها بتبادل أطراف الحديث. تتحول الضحكة الى ابتسامة عتب عندما يحكي عن قصة نزوحه: «كنت طالب علم اجتماع، والآن أملأ الأكياس بالبرغل والجوز». تبقى حاله أفضل من حال أبيه الذي لم يجد عملاً حتى الآن. نزحت العائلة من حي «الشيخ طه» في حلب. الأب وخاتشيك وأختاه آراز ونوشيك، أما الوالدة وأخته ميرنا فبقيتا هناك. الاتصالات مع حلب قائمة. أخبرته والدته في آخر اتصال أن الكهرباء انقطعت عشرة أيام متواصلة. لكن الأحوال بحسب اتصال خاتشيك بوالدته تتحسن، بعد إعادة افتتاح مطار حلب الدولي. وبحسب مصادر من حلب، فإن ذلك شجع عدداً من سكانها الأرمن على العودة إلى أحيائهم في الفيلات والسليمانية والميدان والعزيزية ومحطة بغداد. لم يترك جميع الأرمن بيوتهم في حلب. نسبة كبيرة بقيت، فيما نزح الآلاف إلى أرمينيا. يقتطع خاتشيك من راتبه في café Garo لسد إيجار السكن. تعاونه آراز ونوشيك من راتبيهما. الأولى تعمل في صالون حلاقة نسائية والثانية في استديو تصوير. يستريح النازح الأرمني قرب حلوى أرمنية اسمها بصطخ، قوامها عنب مطبوخ ومحشو بالجوز ومسطح كقمر الدين. يحمل قطعة ملبن أرمني ويخيّرنا بينها وبين الكسما. يبدو الملبن المحشو باللوز والفستق ألذ من الكسما التي تنتج من طبخ العنب بالقمح المقشور.
لا يقارن بين المعيشة في لبنان وحلب ... «والله كان في برَكة بحلب». البرَكة التي يتحسر عليها هي عملياً رخص الأسعار. «كانت ربطة الخبز بـ 15 ليرة» أي أقل من 500 ليرة لبنانية. نموذج أسعار لا يتحملها السوق اللبناني. تقلباته تقلق آزاد، لذلك تحسب ألف حساب: «صرنا نشتري البضاعة ونملأ المستودعات مرة كل عام، وإذا فقد شيء من سوريا نشتريه من أسواق أخرى». نرسيس يفعل الأمر نفسه. يوافق فوراً على تخزين كميات كبيرة من صابون الغار أو الزعتر. من يدري؟ في سوريا من تراه اليوم من التجار قد لا تراه غداً. انقلبت الأحوال. يُحكى عن تجارٍ في حلب، استحالوا، بسبب الحرب، تجار بسطات صغيرة. أولئك الذين كانوا يزورون مرعش مع كميات متواضعة من البضائع، لم يعودوا، والتجار هنا لا يعرفون عن مصيرهم شيئاً. يرجّحون أنهم ممنوعون من الخروج من قراهم في ريف حلب. منع «لواء التوحيد» و«تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) المزارعين من تصدير مزروعاتهم، إذ إنها قد تصل إلى مناطق في حلب تؤيد النظام. وبحسب متابعين من عاصمة الشمال السوري، فإن الذين يصدّرون منتوجاتهم قلّة، ومن يتمكن من الزراعة يدّخر المنتوج لإطعام أطفاله. هكذا يبقى ألم النزوح أسهل على خاتشيك من وقوع الطعام تحت رحمة «أبو دجانة» والي حلب في تنظيم «داعش»، أو سطوة عناصر «أبو عمر الشيشاني». ينتظر خاتشيك شهر حزيران بفارغ الصبر. سيتوجه والده وشقيقتاه إلى حلب للاحتفال بخطبة ميرنا، ومن ثم سيعودون إلى برج حمود. سيأخذون لخطبة ميرنا من شارع مرعش، ملبناً أرمنياً وبصطخ وكسما.