ثمة لحظات فارقة في حياة كلّ أمة، والجزائر على موعد مع تلك اللحظات في هذه الأيام. جمعةٌ تليها جمعة والشارع مكانه. مئات آلاف الجزائريين خرجوا للأسبوع الثالث ليقولوا لا لعبد العزيز بوتفليقة وللعهدة الخامسة. مئات الآلاف بل الملايين، بحسب تقديرات صحيفة «الوطن» الجزائرية المستقلة، ملأوا شوارع العاصمة ومدناً أخرى في جمعة الكرامة. مطالبهم تتعدّى مجرد رفض ولاية جديدة لرئيس غائب لم يحدّث شعبه منذ ستّ سنوات، إلى رحيل نظام كامل أَحْكم كالأخطبوط أرجلَه حول مقدّرات البلاد ومصير العباد. مقابل هذا، شاهدنا ما يشبه الهروب إلى الأمام من جانب السلطة، وإصراراً على الاستخفاف بالعقول، واستفزازاً لمشاعر 42 مليون جزائري وكرامتهم. أبرز ما ميّز هذا الهروب هو اللحظات السريالية الثلاث التي عاشتها البلاد الأسبوع الماضي. أولاها كان الإصرار على تقديم ملف الترشح لولاية خامسة، رغم الرفض الشعبي القاطع، بعدما راهن البعض على إمكانية عدم الإقدام على هذه الخطوة، وخصوصاً أن الرئيس المنتهية ولايته كان لا يزال حينها غير موجود في البلاد. وما عزز هذا الأمل المستحيل، الورقة الصادرة عن المجلس الدستوري صباح الثالث من آذار/ مارس، والتي ضمّت أسماء المرشحين للانتخابات، باستثناء بوتفليقة.
اللحظة السريالية الثانية التي تجافي العقل والمنطق، هي الرسالة التي قرأها عبد الغني زعلان، مدير حملة الرئيس الجزائري، على أنها من بوتفليقة نفسه. في تلك الرسالة، إشادة بالمسيرات المطالِبة بالتغيير، وتعهّد بتنظيم انتخابات مسبقة حال الفوز بالاستحقاق المقبل، مع وعد بعدم الترشح (لولاية سادسة هذه المرة!)، وبالانسحاب من المشهد السياسي، إضافة إلى تعهدات تخصّ تعديل الدستور ومسائل أخرى.
بعدها، جاءت اللحظة السريالية الثالثة. رسالة ثانية من بوتفليقة عشية الاحتفال بيوم المرأة العالمي، قرأتها وزيرة البريد والاتصالات الجزائرية هدى فرعون، يحيّي فيها الرئيس الغائب المُغيّب المرأة الجزائرية في عيدها، ويحذر مِمَّن سمّاهم المندسّين في المسيرات السلمية، ويدعو إلى «الحفاظ على الاستقرار للتفرغ للاستمرار في معركة البناء» كما قال.

كيف نقرأ تلك اللحظات؟
أولاً: يبدو أن الرسالة لم تصل بعد إلى السلطة، وفوق هذا كله نجد إصراراً غريباً على الإهانة والاستفزاز بحق الملايين. إذ كيف يُقدّم ملف ترشح رئيس مريض عاجز حتى عن الكلام؟ والأنكى تُقرأ خطابات يوهَم الشعب بأنها من زعيم تفيدُ تقارير بتدهور حالته الصحية؟ إذا لم يكن هذا استخفافاً بالعقول وضحكاً على الذقون، فماذا يكون إذاً؟
ثانياً: لنفرض جدلاً أن الرسالتين من بوتفليقة شخصياً، وإن كان المنطق والواقع يقولان غير ذلك. الرجل يَعد بالانسحاب بعد عام من الفوز بالولاية الخامسة، وبالتغيير وبتعديل الدستور، وكأنه يريد أن يقول أنا من أقرر متى أرحل، وليس الشارع الذي يفرض عليّ الرحيل. من يضمن ذلك؟ أليس بوتفليقة نفسه من وعد وأَخْلف؟ أليس هو من قال يوماً وهو في عزّ عافيته: «طاب جناننا» (بالعامية الشرقية استوى العدس)، وإن جيل الثورة قد كبر وعليه أن يسلّم المشعل، ثم وجدنا المعني يعدّل الدستور حتى يبقى في الحكم إلى ما شاء الله، إلى أن وصل إلى تلك الحالة الصحية التي هو فيها، ومع ذلك لا يريد الرحيل كأي رئيس انتهت ولايته وقدرته على العطاء؟
إن السلطة بمثل هذه التصرفات لا تريد إلا شراء الوقت، وترتيب الأمور ليستمرّ الحال على ما هو عليه من تكلّس وجمود وفساد وشباب عاطل من العمل يتطلّع إلى موج البحر ليأخذه بعيداً، فإما أن يغرق أو يصل إلى أرض غريبة ليلقى مصيراً مجهولاً في انتظاره. لقد فات أوان الحلول الترقيعية، لأن الشعب قال كلمته. الجزائريون يريدون التغيير الجذري بكلّ ما يعنيه ذلك. والتغيير لا يعني سحب الترشح أو تأجيل الانتخابات، لأن ذلك يصبّ في خانة شراء الوقت أيضاً. التغيير هو في انسحاب الوجوه والأحزاب والمنظمات التي أحكمت قبضتها على البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً طوال العشرين سنة الماضية. وأول هؤلاء حزب «جبهة التحرير الوطني» الذي أساء من حكموه إلى تاريخه، وحزب «التجمع الوطني الديموقراطي» برئاسة رئيس الوزراء أحمد أويحيى. وهما الحزبان اللذان مارسا سياسة الكراسي الموسيقية في الحكومة والبرلمان منذ عام 1999.
مهمة القوات المسلحة أسمى من أن تساهم في بقاء سلطة لَفَظها الشعب


التغيير يعني أيضاً ابتعاد الأحزاب الانتهازية الصغيرة التي قبلت أن تقوم بدور المحلّل لسياسات مرتجلة وظالمة. يجب إفساح المجال لوجوه وتيارات سياسية جديدة لم تغرق في مستنقع الفساد والمحسوبية، ولا همّ لها إلا بناء الوطن وخدمة الشعب. والجزائر حتماً ليست عاقراً، فالأرض التي أنجبت الجيل الذي فجّر الثورة المجيدة قادرة على أن تعطي أكثر وأكثر. التغيير يعني محاسبةَ رجال الأعمال الفاسدين والنقابيين المنتفعين الذين لم يدافعوا يوماً عن حقوق العمال، والقضاء على سرطان الفساد الذي ينهش في جسد الوطن.
التغيير يعني أيضاً ألا يكون للشرعية الثورية مكان في جزائر المستقبل إلا في حدود ما يَكفَله القانون لأي مواطن له الحق في التوزيع العادل للثروة. بعد أكثر من 56 سنة على الاستقلال، هل يعقل أن نستمرّ في منح منظمات المجاهدين وأبناء الشهداء امتيازات خاصة؟ من جاهد مشكوراً فأجره عند ربه، لا عند دولة تميزه عن غيره. طبعاً نحن هنا لا نتحدث عن الأرقام الفعلية للمجاهدين. أصدق تعبير عن هذه المسألة هو ما ذكرته المناضلة الجزائرية لويزة إيغيل أحريز عام 2015، حين قالت بنبرة لا تخلو من غضب وعتب: «لو كان هذا هو عدد المجاهدين الذين شاركوا في الثورة، لكنّا حرّرنا الجزائر في ثلاث سنوات» بدل السنوات السبع التي استغرقتها حرب التحرير. وفي هذا التصريح دليل واضح على أن عدد المجاهدين زاد منذ الاستقلال ولم ينقص، بينما المنطق يقول العكس مع كلّ ما يعنيه ذلك من امتيازات وعطايا. أما أبناء الشهداء، فهم ليسوا قصّراً بحاجة إلى رعاية. أصغرهم على عتبة الستين من العمر وقد أصبح له أحفاد. وبالتالي، فإن لهم حقوقاً (وواجبات أيضاً) كباقي الجزائريين لا أكثر ولا أقل.
هذا هو التغيير الذي ينشده الشعب، وليس وعوداً عرقوبية وحلولاً ترقيعية تبقي الوضع على ما هو عليه، أو تضمن الاستمرارية كما يحلو للبعض أن يسمّوها وهم يطبّلون لسنوات حكم بوتفليقة العشرين.

توزع المسؤوليات
في هذه الأيام المصيرية، على المجلس الدستوري أن يتحمّل مسؤوليته، ويرفض ملف ترشح بوتفليقة كخطوة أولى لتهدئة الجماهير التي أهينت كرامتها. لا يُعقل أن يُقبل ملفّ مرشح غائب ومريض. إذ كيف يمكن أن يضمّ ملفُّه شهادة طبية تنصّ على أهليته للترشح؟ وإن حدث، فهذا يعني أن الفساد الذي طبع عهد الرئيس الذي توعّد هذه الآفة بالويل والثبور، لم يُبقِ في الوطن شيئاً. فالقانون ينصّ على أن الشهادة تُمنح من أطباء محلّفين في الجزائر لا في الخارج، هذا أولاً. وثانياً، لا أعتقد أن الأطباء السويسريين يفعلونها ويمنحون بوتفليقة شهادة بأهليته لممارسة السلطة.
حتى كتابة هذه السطور، تصرّفت القوات الأمنية بقدر كبير من الانضباط، رغم حدوث بعض المناوشات في آخر التظاهرات في العاصمة الجزائرية. ومع الاعتراف بإمكانية وجود مساع لإجهاض الحراك وتحويله عن مساره السلمي، نتمنى أن تحافظ قوات الأمن والشرطة على هذه الحِرفية في التعامل، وقبل ذلك كلّه أن يبقى الجيش حامياً للشعب والوطن، فمكانه ليس الشارع. ووسط الأخطار المحدقة بالبلاد، فإن مهمة القوات المسلحة أسمى وأرقى من أن تساهم في بقاء سلطة لَفَظها الشعب.
كلّ المؤشرات تدل على أن الحراك الشعبي إلى تصاعد، وخصوصاً بعد ما شهده من استفزاز وإهانة للمشاعر، للأسباب السالفة الذكر. فهناك دعوات الى الإضراب العام في كامل التراب الوطني لشلّ حركة الاقتصاد. لذلك، وبدل أن تصمّ السلطة آذانها، عليها أن تعي أن الملايين التي خرجت لن تقنع بتأجيل الانتخابات، أو حتى إعلان سحب ترشح رئيسٍ كان (أو لا يزال، لسنا ندري) همّه الوحيد أن يموت في السلطة كالرئيس هواري بومدين عام 1978. إن الحل ليس في التأجيل، ولا في إجراء الانتخابات من دون بوتفليقة.
إن هذا الشعب العظيم خالف كلّ الحسابات والتوقعات، وأثبت قدرته العالية على التحلّي بروح المسؤولية. فقد خاب ظنّ كلّ من راهن على سنوات العنف الأعمى في الجزائر، وفزّاعة السيناريو السوري والليبي. كان أمام الشعب حلّان: إما أن يقول كلمة لا لِما يجري، أو الانصياع والتسليم بالأمر الواقع، واضعاً نصب عينيه أحداث ما يسمى بالعشرية السوداء، وعلى هذا تحديداً كانت السلطة تعوّل. لكن ثمة جزئية واحدة لا يجب إغفالها: جحافل الشباب التي ملأت شوارع الجزائر لم تعش سنوات المجازر والتفجيرات، ومن رأى ليس كَمَن سمع.

بالتالي، وأمام انسداد الأفق وانقطاع الأمل، كان من السهل أن يقع الشباب الجزائري في الفخ ولا يستخلصَ الدروس من أحداث لم يشهدها كما كان بعضهم يظن أو يراهن. لكن المفاجأة أن المتظاهرين اختاروا طريقا ثالثا، طريقَ الكرامة والمطالبة بالتغيير من دون عنف ولا دماء.

مضى عهد بوتفليقة ولا حل إلا في خارطة طريق
أمام هذا النضج الشعبي ودرءًا لأية مخاطر، لا حل إلا في تغليب مصلحة البلاد. إن عهد بوتفليقة قد ولّى. فلا جدوى من التعنت ومواصلة سياسة الهروب إلى الأمام.
يجب ألا ترى السلطة ما يجري من منظور الغالب والمغلوب. فالكل رابحٌ إن ربح الوطن والكل خاسر إن خسر. والحل هو في مرحلة انتقالية بعد إعلان حالة الشغور الرئاسي لالتقاط الأنفاس وتمهيد الطريق لانتخابات برلمانية، يليها استحقاق رئاسي، لتكون الجزائر على موعد مع ميلاد جمهورية ثانية، وينبعث المارد من حطام المرحلة الماضية.