تونس | استقرّت تقديرات وزارة الداخلية التونسية، أخيراً، لعدد التونسيين المقاتلين في مناطق الحروب والنزاعات، عند حدود ثلاثة آلاف مقاتل، عاد منهم حوالى ألف، فيما قُتل قسم آخر لا يمكن الجزم بعدده، لكن التقارير الإخبارية الآتية من سوريا وليبيا خاصة تشير إلى أهميته.لا يُعدّ عدد العائدين المُعلَن عنه رسمياً بسيطاً، علماً بأن أغلبهم عاد طوعاً، وأن تونس لم تتسلّم من دول أجنبية سوى حفنة من هؤلاء، كان آخرهم مجموعة مُسلّمة من سوريا. وتشير دراسة صدرت العام الماضي عن «المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية»، شملت 83 سجيناً، إلى أن العائدين قسراً يمثلون 6.4 في المئة من جملة المنتمين إلى هذه الفئة. ووفقاً للدراسة نفسها، فإن الأجهزة الأمنية لم تتفطّن لهوية أغلب العائدين (حوالى 68 في المئة) إلا بعد فترة من دخولهم تونس، ما يشير إلى ضعف قاعدة البيانات.
لكن الأهم من كل ذلك، أن السواد الأعظم من العائدين ليسوا في السجون، وليسوا منخرطين في أيّ برنامج إعادة تأهيل. في تصريح قبل عامين، حين كان العدد يقارب 800 عائد، قال وزير الداخلية، هادي المجدوب، إنه يوجد منهم 190 في السجن، و37 تحت الإقامة الجبرية، فيما يخضع البقية لمراقبة يومية وهم طلقاء. ومن بين هؤلاء مثلاً سامي العيدودي، الذي يُعرف بأنه كان الحارس الشخصي لأسامة بن لادن، والمُرحّل من ألمانيا. يشير هذا إلى ضعف في التحقيقات الأمنية، حيث لا يمكن سجن العائد، وفق قانون مكافحة الإرهاب التونسي، إلا بعد إثبات انتمائه إلى جماعة إرهابية، في الداخل أو الخارج. والمشكلة في الرقابة اليومية أنها تعتمد على وسائل تقليدية، مثل إجبار المعنيّ بالأمر على الحضور إلى مركز أمن ثلاث مرات في اليوم، وتتبّع تحركاته، ما يستوجب تسخير إمكانيات بشرية مهمة، كان يُمكن تعويضها بوسائل تقنية على غرار الأساور الإلكترونية، وهو ما لم يحدث حتى الآن رغم ثقل المخاطر.
السواد الأعظم من العائدين ليسوا منخرطين في أيّ برنامج إعادة تأهيل


وليس هؤلاء وحدهم من يمثّلون تهديداً، بل كذلك الموجودون داخل السجون، وهم فئة أخطر لثبوت تورّطهم مع جماعات إرهابية، وبعضهم كان من القياديّين فيها. تحاول السلطات الفصل بين المدانين في قضايا إرهابية ومساجين الحق العام، لكن يصعب ذلك في ظلّ الاكتظاظ الذي تشهده السجون. كما يتعذّر في حالات كثيرة فصل القياديين عن الأقلّ خبرة، ما يحوّل الزنازين إلى مواقع لتبادل الخبرات، ويعزّز التضامن والهوية الجمعية لمساجين القضايا الإرهابية، ويطرح خطر استقطاب بقية المساجين.
مع ذلك، يبدو انخراط العائدين، خاصة المُرحَّلين منهم، في نشاطات إرهابية مجدداً، محدوداً جداً. يعود ذلك في جزء كبير منه إلى الجهود الأمنية، لكن يمكن نسبته أيضاً إلى رغبة المعنيين في تغيير مساراتهم، وهو ما أظهرته نسبة مهمة من العينة التي شملتها دراسة «المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية»، كما لاحظته الباحثة في «معهد لندن للاقتصاد» اعتماد مطر، عبر دراستها لعدد من الشبان السلفيين، وتجربتهم في «نزع التطرّف ذاتياً». علاوة على ذلك، لا تَظهر أسماء العائدين طوعاً في سجلات العمليات الإرهابية. صحيح أن عدداً من العائدين انضمّوا إلى المجموعات الصغيرة الناشطة في جبال غرب تونس، وأن تونسيين من الجماعات الناشطة في ليبيا شنّوا هجوم بن قردان عام 2016، لكن هؤلاء لم يعودوا من البوابات الرسمية، وجلّهم نشطوا في بلدان قريبة، مثل ليبيا ومالي والجزائر، وليس في المشرق العربي.
تثبت الوقائع أن الخطر الأكبر يمثله مَن لم يعودوا بعد من مناطق الحروب، إذ نجح هؤلاء في تجنيد بعض أهمّ مرتكبي العمليات الإرهابية في تونس، على غرار الشابة منى القبلي التي فجّرت نفسها في الشارع الرئيسي في العاصمة العام الماضي، أو الشاب سيف الدين الرزقي الذي تحوّل من عامل في القطاع السياحي إلى إرهابي قتل 39 سائحاً وجرح عشرات آخرين في ما يُعرف بـ«عملية سوسة» عام 2015.
في الإجمال، يمكن القول إن الدولة التونسية نجحت بدرجة كبيرة في ضرب بنى الشبكات المتطرفة، من خلال حلّ حوالى 150 جمعية مشبوهة، والسيطرة على المساجد، وتفكيك خلايا، ومنع آلاف الشبان من التوجه خاصّة إلى تركيا، لكنها ما زالت تعاني مشكلات في تطويق خطر العائدين، في ظلّ غياب برامج نزع التطرف وإعادة الإدماج، وكذلك تطويق الخطر القادم من العالم الافتراضي، حيث ينشط الإرهابيون الأكثر رسوخاً، وينجحون في استقطاب فاعلين محليين.