الحسكة | لم يكن حسين المصطفى يتوقع أن تجبره الظروف على ترك مهنته التي رافقته سنين طويلة في طفولته كما في شبابه. فرض واقع الحال على الرجل توديع العمل في «التمديدات الصحية»، والتحوّل إلى مهنة جديدة مؤهّلة لتوفير دخل أفضل، بعد أن تعلّم «صيانة الطبّاخات والمدافئ» وأتقنها. يقول أبو محمد لـ«الأخبار» إن ظروف الحرب أثرت على مهنته، فتوقف عمله بشكل شبه تام، ما دفعه إلى البحث عن مهنة جديدة تؤمن قوت العائلة. ويضيف «اخترت مهنة صيانة طباخات الكاز والمدافئ، لأنها كانت منسية قبل الحرب، لكن حاجة الناس إليها جعلتها من أكثر المهن حضوراً خلال الحرب، بعد أن بات تأمين المحروقات صعباً». يشرح الرجل «الناس توجهوا نحو الطبّاخات التي تعمل باستخدام الكاز لرخص المادة وتوافرها، بالإضافة إلى مدافئ الحطب التي تحتاج إلى صيانة دوريّة، ما أمن استمرارية في العمل، وجعل المهنة مضمونة لجهة الدخل الجيد، قياساً بمهنتي السابقة». لا يخفي المصطفى حنينه إلى مهنته الأساسية، ويؤكد أنّه سيعود إلى ممارستها «بعد أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه». كانت ظروف خليل أقسى، ولم يمتلك ترف تبديل مهنته باختياره، بل فُرض الأمر عليه قسراً. خسر الرجل محل بيع الأواني المنزلية الذي كان يملكه في مدينة الرقة. سرعان ما غادر خليل المدينة إلى الريف، ثمّ إلى الحسكة، ليحط به القدر على «بسطة» لبيع مستلزمات منزلية بسيطة. يقول «قست علينا الحرب كثيراً، لكن وضعي أفضل من غيري بكثير. صحيح أنني خسرت المال، لكن عائلتي بخير». ويضيف مبستماً «من رضي عاش. الحمد لله على كل حال».
«مهن الحرب»
مسحت الحرب أسواقاً بحالها في بعض المدن، مثل «السوق المقبي» وشارعي «ستة إلا ربع» و«حسن الطه» الشهيرين في دير الزور. في الوقت نفسه قامت أسواق جديدة، متخصصة في بيع سلعٍ لم يكن حضورها مألوفاً في السوق السوريّة. وشهدت «المنطقة الشرقيّة» في سوريا انتشاراً كثيفاً لبسطات بيع المحروقات المكررة محلياً، بسبب انقطاع وصول «المحروقات الحكومية»، نتيجة تعاقب سيطرة جماعات مسلحة مختلفة على معظم المدن والبلدات. في محل صغير في مدينة الحسكة، يفرز الشاب الملقب «كني» براميل المازوت والبنزين بحسب جودتها ونوعها، بعد أن كانت قد وصلت إليه للتو من أحد التجار. يقول الشاب «أعمل في هذه المهنة منذ أكثر من ستة أعوام، بعد أن فقدت عملي في إحدى محطات الوقود في المدينة». يؤكد «كني» إدراكه لخطورة العمل بهذه المهنة، ويقول «أعاني من ضيق في التنفس، مع أذية في جلد اليدين، لكن يبقى ذلك أفضل من الجلوس في المنزل».

من «الماركات» إلى «البالة»!
تركت الحرب بصمتها على شكل الاسواق وأنشطتها، وغيّرت معالم شوارع كانت «رموزاً تجارية» لبعض المدن. ينطبق الأمر على «شارع الماركات» في مدينة الحسكة، الذي كانت محالّه تبيع أهم «الماركات» المحليّة والعالمية. اليوم، تحوّل الشارع إلى مركز لبيع الألبسة المستعملة، الأوروبية منها والمحليّة! كان نشاط «الماركات» قد تضاءل تدريجياً، إلى أن تلاشى، بعد أن توقف تدفق البضائع بفعل انقطاع الطرقات البرية إلى المحافظة سنوات طويلة. وشيئاً فشيئاً، بدأت المحال إغلاق أبوابها، مفسحة في المجال أمام بسطات «البالة» التي انتشرت على أرصفة الشارع. واستغل أصحاب البسطات الحدود المفتوحة بين الحسكة وشمال العراق، لاستجلاب الألبسة المستعملة، وبيعها بأسعار تتناسب مع دخل المدنيين، وهو ما يفسر حالة الازدحام الكبير في السوق طيلة ساعات النهار، وإغلاقه أمام حركة السيارات. وانسجم هذا التحوّل الاقتصادي الذي طاول معظم أبناء المحافظة مع تضاؤل القوة الشرائية، وتحوّل غالبية السكان إلى مستوى الفقر، وما دونه أيضاً.