اللاذقية | تخرج ميساء من منزلها في أحد الأحياء الشعبيّة في اللاذقية، إلى مقر عملها في إحدى المؤسسات الحكومية صباح كل يوم. ظهراً، تمضي المرأة الأربعينية، إلى عملها الإضافي مدبّرةَ منزل لدى عائلة ميسورة. وبرغم أنّ المدينة ما زالت «متّهمة» بالكسل، فإن شيئاً ما قد تغيّر. لعلّه الحزن المتغوّل الذي سيطر على ملامح الجميع مطعّماً بصور الخيبات والذلّ. فمن كان يصدّق أن المرأة المتعلّمة الآتية من الريف الساحلي الخيّر، ستخدم في البيوت للمساعدة في تأمين مصروف ولدَيها الطالبَين الجامعيّين؟ تقول السيدة بمرارة: «ما يجري فوق المنطق والطبيعة. أنا وزوجي نعمل طيلة النهار، ونعود إلى بيتنا منهكَي القوى. ولداي أيضاً يعملان بعد دوامهما الجامعي في مهن متواضعة. وأقسم، مع هذا، أن وضعنا المادي مثير للشفقة». في زمان ما قبل الحرب، كانت الوظيفة الحكوميّة حلم ابن اللاذقية، لكنّها اليوم لم تعد تدرّ ما يسدّ الرّمق. والفقر الذي أنهك عائلات الطبقة الوسطى، فرض على أفرادها اللهاث وراء الرزق بما يفوق التوقعات. ومع تغيّر ملامح أسواق اللاذقية يمكن أن تلمس أثر التجار الحلبيين وأصحاب المهن من النازحين الذي نقلوا صناعاتهم وأعمالهم إلى الساحل طلباً لأمان أكبر. صارت المحال التجارية تفتح أبوابها باكراً، وتغلق في مواعيد منتظمة. البضائع الحلبية الصنع أغرقت الأسواق الساحلية، بعدما اشتهرت هذه الأسواق ببيع البضائع المهرّبة. وبالطبع، فإن المهرّبات والمستوردات ما زالت جزءاً من يوميات المدينة، وإنْ نسبياً. تعلّق ريم، زوجة شهيد، على الأمر بقولها: «ربما تأثر البعض بنشاط الحلبيين وأفكارهم ومشاريعهم. أما أنا فقد تأثّرت بمأساة جارتي الحلبية التي فقدت زوجها وطفليها بقذيفة صاروخية، قبل أن تنزح إلى الساحل، فتلملم جراحها للنهوض بمن بقي من أسرتها».
أفراح وأتراح... و«شبّيحة»
ثمّة ظواهر متكررة تشرح تأثر مجتمع المدينة بالعسكرة خلال الحرب، كما لو أنها «آليات دفاعية في وجه الخطر المحدق». اللباس العسكري أضحى زياً طبيعياً للسائرين في الشوارع، رغم أن لا حواجز عسكرية داخل المدينة، باستثناء بعض الحواجز الشكلية على مداخل ومخارج حي الرمل الجنوبي (الفلسطيني)، الذي شهد أحداثاً دامية في بواكير «الأزمة». أحياء وسط المدينة حافظت على التوزّع السكاني الطائفي الصارم، برتابة مراكز المدن المعتادة. ولا غرابة في تفكك بعض الروابط الاجتماعية، بفعل نمو الفردانية والبحث عن الخلاص الفردي والمصالح.
من العائلات من ربّت ابنها «كل شبر بندر» وخسرته بكبسة زناد

لتكافل الاجتماعي» ليس في أفضل مستوياته، إذ تطوي زوجات الشهداء قهرهن وحرمان أبنائهن وينَمن، كما لو أنّ المدينة تنشغل عنهن بأفراحها الصيفية ومواسم الأعراس المترافقة مع المظاهر الخادعة، ومراسم «التشبيح» التي تخيّم على مداخل المقاهي والمطاعم الفاخرة كل مساء. أبو أيمن، بائع الخضر الخمسيني، يقول: «بعدما طوت المدينة أخيارها فاضت الأماكن بالأشرار». ويضيف «صار الناس يتحيّنون الفرصة للاحتفال بأفراح الزواج والإنجاب». فيما باتت المقابر مزارات مأهولة بمن فقد عزيزاً، ورفض أن ينسى الفاتورة الباهظة التي دفعها الغائبون.

وجوه الرّاحلين
من متغيّرات المحافظة، المتردية الخدمات، جدران قديمة أو مستحدثة وقد اكتست بصور كثيرة للرّاحلين. على مدخل كل قرية عُلّقت وجوه شبان كانوا جزءاً من وجدان المنطقة وذكرياتها، فأتت الحرب على وجودهم وقتلت أحلام عائلاتهم بنجاحاتهم وأفراحهم. من العائلات من ربّت ابنها «كل شبر بندر»، وخسرته بكبسة زناد أو زر إطلاق أو تفجير. حكايات كثيرة تتناقلها الألسن في القرى البعيدة الموحشة، التي حُرمت نعمة الكهرباء، فصارت تنام باكراً. لم يتوقّع أحد أن المستقبل مظلم إلى هذا الحد، وموحش أيضاً في غياب شبانه. بينما تقطعت حبال الأمل لدى الفتيات الريفيات الجميلات، فانحدر الواقع بهن إلى قصص مأسوية عن حبيب مفقود أو مهاجر، أو زوج مخطوف، أو أب شهيد. «ماذا أحكي لكم عن الحرب»؟ تقول أم رامز. المرأة الستينية ما زالت تعمل في أرضها لتعوّض غياب الذكور، وتعيل عائلة كبيرة، في عدادها ابن مُقعد جرّاء إصابة حرب. تبتسم بطيبة، وتقول: «ما زال في هذه الأرض خير». وتضيف سريعاً «عادت الأمطار هذا الشتاء بعد جدب سنوات عدة. لعلّه مؤشر خير لسنوات قادمة». عليك أن تقابل كلماتها بابتسامة امتنان وخجل، وتسأل نفسك: من أين تأتي تلك المناضلة بفيض التفاؤل هذا؟!