عام آخر تضيفه عدّادات الحرب السورية إلى عمرها، من دون أن تشير المعطيات إلى انفراجة حقيقية في الأفق. الأحداث الدامية التي عرفتها البلاد قبل ثمانية أعوام أفلحت تدريجاً في انتزاع إجماع على تسمية واضحة: «حرب مفتوحة»، لتنتقل انقسامات السوريين من الخلاف على التسميات، إلى السجال على الأسباب والمآلات. وحتى اليوم، لا يزال التضارب الهائل سيّد المشهد في معظم ما يتّصل بالحرب من «أرقام»: أعداد الضحايا، حجم الدمار، أكلاف «إعادة الإعمار» وممكناته ومستحيلاته... إلخ. وحده الرقم ثمانية يحظى بـ«إجماع» حاسم، ويستدعي إقراراً بأن آذار 2011 كان مفتاحاً لـ«تغيّر كل شيء»، وربما إلى الأبد.15 آذار 2019. لا جديد فعلياً يحمله هذا التاريخ، أو «يبشّر» به. هو يوم يضاف إلى روزنامة الحرب، مفتتحاً عاماً آخر من عمرها، من دون معطيات تشير إلى أنه قد يكون الأخير. وبرغم الانحسار الكبير الذي شهدته جغرافيا المعارك في العام المنصرم، فإن يوميات السوريين ما زالت «يوميات حربية» بامتياز، مع اختلاف جوهري في طبيعة «الفاتورة» الواجب سدادها مقابل «اللقمة المغمّسة بالدم». ولا يزال المعنى الحرفي للعبارة ساري المفعول في إدلب وحماة وحلب واللاذقية والرقة ودير الزور، بنسبٍ متفاوتة، ولأسباب مختلفة، فيما يكتسب المعنى المجازي قسوة مضاعفة في مناطق سيطرة دمشق؛ بفعل خناق اقتصادي يضيق أكثر فأكثر، ينافسه في ذلك واقع اللاجئين في المخيمات ودول الجوار.
ولم يتغير شيء في قدرة السوريين المحدودة على التأثير في شكل الخواتيم المفترضة لحربهم (والأرجح أن هذه القدرة انخفضت)، بينما تعمّقت الانقسامات الإقليمية والدولية، وصارت تباينات الرؤى والمصالح داخل هذا المحور أو ذاك أكثر علانية، وأشدّ تأثيراً في مدّ عمر الحرب. ويبدو الرهان على إطالة أمد الصراع حاضراً بقوة على أجندات بعض اللاعبين المؤثّرين، وعلى رأسهم واشنطن، التي لم تغيّر خلافاتها الداخلية بشأن الملف السوري شيئاً في تعاطيها العام معه. وبرغم الزوبعة التي أثارها قرار «الانسحاب العسكري» المزعوم، تبدو الخيارات الأميركية محسومةً لجهة عدم التخلّي (طوعاً) عن المنطقة الشرقية «تحت أي ظرف».
ليست واشنطن الوحيدة الساعية إلى «مأسسة» الميليشيات المتحالفة معها


ويفتح هذا التفصيل الباب أمام تحويل شرق سوريا إلى «مسألة إقليمية» معقّدة، الأمر الذي يتكامل مع تعقيدات ملف الشمال السوري. ويبدو لافتاً في هذا السياق الحديث المتزايد عن «وصفة» جديدة تعكف «دولة الأمن القومي» على تكريسها حلّاً وحيداً للاشتباك الأميركي الداخلي حول مسألة الانسحاب، بما يضمن «استيعاب نزوات ترامب، ولا يعرّض مصالح الولايات المتحدة للخطر». وتقوم هذه الوصفة على نقل الوجود الأميركي من طور الحضور العسكري إلى حالة «الحرب الاستخبارية»، مع إعطاء الصدارة لضباط وكالة الاستخبارات الأميركية لقيادة «القوات المحلية» وتوجيهها على الأرض. وعادت إلى التداول جملةُ مقترحات أميركية لـ«خطط مستقبلية» يمكن أن يضمن تنفيذها توفير «بيئة خادمة» لمصالح واشنطن، التي هي بطبيعة الحال مهدّدة للمصالح السورية. وتزايدت النقاشات حول إعادة إحياء مقترح «قوة حرس الحدود» التي سبق لقوات «التحالف الدولي» أن أعلنت العزم على تشكيلها في الشرق السوري (مطلع العام الماضي). الجديد اليوم، أن مقترحات إحياء هذه الخطوة تلحظ «إغراء أنقرة بإبعاد وحدات حماية الشعب الكردية عن هذه القوة، وإشراك البيشمركة فيها، إلى جانب عناصر من العشائر العربية تكون نسبتها هي الأكبر».
وغير بعيد عن هذا، تدور أحاديث خافتة في الكواليس الأطلسية عن احتمال دخول رسمي لـ«حلف شماليّ الأطلسي» على خطّ «المناطق الآمنة»، برغم المخاض العسير الذي يُتوقع أن يقطعه مقترح من هذا النوع قبل إبصاره النور، فيما لو أبصره. وتُظهر خطط «البنتاغون» حرصاً على توفير تمويلات عسكرية صالحة لتغطية سيناريو من هذا النوع، تحت عنوان «دعم المعارضة المفحوصة». ويُعدّ برنامج «المعارضة المفحوصة» خياراً «استراتيجياً» انتهجته وزارة الدفاع الأميركية، منذ حقبة النزاع بينها وبين إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، لفرض إيقاع «الجنرالات» على الملف السوري، وتكريس «حرب طويلة الأمد». (راجع «الأخبار» 18 آب، 2016). وتحضر في قائمة الخيارات الأميركية «المدروسة» أيضاً برامج تمويلية لـ«دعم استقرار المناطق المُحرّرة من داعش». وتلحظ الخطط ضرورة «استحداث الوظائف وتنشيط الخدمات الأساسية»، فضلاً عن «حثّ جهات أخرى على المشاركة في هذه البرامج، مثل بعض الحكومات الأوروبية، وبعض حكومات الشرق الأوسط، والمؤسسات المالية الدولية، والأمم المتحدة». ويبدو جلياً أن أي تحرك جدي في هذا الإطار إنما يهدف إلى تكريس سيناريو «كانتونات الأمر الواقع».
وليست واشنطن الطرف الوحيد الساعي إلى «مأسسة» الميليشيات العسكرية المتحالفة معها، و«دعم المجتمعات» الخارجة عن سيطرة دمشق. ثمة مساعٍ تركية مماثلة انطلقت فصولها في أعقاب الجولة الاحتلالية التركية المسمّاة «درع الفرات»، وتعززّت لاحقاً مع احتلال عفرين («غصن الزيتون»). وقطعت أنقرة شوطاً كبيراً على طريق هيكلة جزء من المجموعات المسلحة العاملة تحت لواء «درع الفرات»، في صورة تتعدى الحالة الميليشياوية، وتتوخّى تشكيل «جيش وطني معارض». ودفعت أنقرة نحو افتتاح «كليات عسكرية»، كما عملت على تشكيل «شرطة حرة»، إضافة إلى مواصلة العمل على تتريك المجتمع في الشمال السوري. ويبدو لافتاً أن معظم المجموعات المسلحة العاملة تحت راية «درع الفرات» هي مجموعات سبق لها أن حازت الرضى الأميركي. وإذا ما استمرّ تنفيذ الخطط التركية على هذا الصعيد في مناطق غرب الفرات، وانضمّت إليها خطط أميركية مشابهة شرقيّ الفرات، فستكون النتيجة تمهيداً للبدء في تكريس «كانتونات» تفوق قدرة دمشق على إخضاعها.
وتصلح كل المعطيات المذكورة للاستثمار لاحقاً في صورة حرب عسكرية، أو فرض «أمر واقع» يجعل كلّ حديث عن «وحدة سوريا» مُعدّاً للاستهلاك الإعلامي فحسب. ويمكن تمييز ثلاث جغرافيات قابلة للتحول إلى مسرح عسكري نشط في المراحل التالية من الحرب، على رأسها مثلث «إدلب، حلب، حماة» الذي تهيمن عليه «الرايات السود». ويحتفظ احتمال التفجير العسكري بحظوظ أقلّ على خطوط التماس بين الجيش السوري ومناطق الاحتلال التركي (ريف حلب الشمالي)، كما على خطوط التماس بين الجيش و«قوات سوريا الديمقراطية» شرقيّ الفرات. كذلك تحضر احتمالات التصعيد العسكري بين «قسد» وأنقرة على امتداد المسافة بين منبج وعين ديوار.
وبرغم خروج بعض اللاعبين من خريطة الصراع على شمال سوريا وشرقها، فإن المشهد اليوم يُذكّر بما كانت عليه الأمور قبل أكثر من أربعة أعوام (راجع «الأخبار» 4 كانون الأول 2015). ولا يغيب جنوب البلاد عن الاحتمالات المفتوحة، في ظلّ عدم استقرار «بيئة المصالحة» في درعا، واستمرار التحديات «الأمنية» في السويداء، وحضور مخاطر اعتداءات الكيان الإسرائيلي دائماً.