غزّة | في غزّة معركة محتدمة بين الحكومة المقالة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا». المعركة العلنيّة انطلقت من قلب منهاج «حقوق الإنسان» المقرّ من «الأونروا» للطلاب المنضمين إلى صفوف السابع والثامن والتاسع. لم تشبع «الأونروا» من شنّ حروبها على اللاجئين عبر إعلانها تقليصاً إغاثياً واحداً تلو الآخر، لتصوّب أعينها هذه المرة نحو الأجيال الفلسطينية الناشئة، فصنعت منهاجاً يحثّهم على فكرة تقبّل العدوّ وأنسنته.
كذلك تعمّدت إتقان هذا المنهاج دور تسطيح الكفاح المسلح، وقلب كثير من المفاهيم التي من المفترض أن تكون راسخة في أذهان الطلبة. بدأت الحكاية حين عرضت الوكالة على وزارة التربية والتعليم في الحكومة المقالة منذ مطلع عام 2012 مناهج «حقوق الإنسان»، غير أن الوزارة أبدت اعتراضها وتحفّظها على فحوى هذه المناهج، باعتبارها حاملةً في طياتها مخالفات خطيرة تمسّ ببديهيات القضية الفلسطينية. لم تنصع «الأونروا» آنذاك إلى أوامر الوزارة بتعديل المحتوى، فاقتصرت تعديلاتها على 30-40% منه، وتركت البقية على حاله. عادت الأزمة إلى الواجهة مجدّداً، بعدما تبيّن للوزارة أن مدارس «الأونروا» خلال الفصل الدراسي الحالي، لم تُجرِ أي تعديلات على المنهاج، وتدرّسه لطلبتها دون الحصول على الترخيص النهائي من الوزارة. ويشكّل تجاوز «الأونروا» خرقاً صارخاً للعرف الذي يلزمها بضرورة التزامها المناهج التي تدرّس ضمن نطاق عملياتها.
ولم تفوّت وزارة التربية والتعليم العالي في حكومة قطاع غزّة المقالة الفرصة الثمينة دون أن توجّه خطاباً شديد اللهجة لـ«الأونروا»، حيث اتهمتها بـ«غسل أدمغة الطلبة» واعتبار نفسها «دولة داخل دولة». وشددت الوزارة على أن على «الأونروا أن تدرك حدود صلاحياتها، فهي ملزمة بالمناهج التي تدرس في مناطق عملياتها، كذلك فإن طباعتها للمناهج غير المرخصة يعدّ تجاوزاً للقوانين والأعراف المتبعة». ورأى البعض أن هذه الحديّة والصرامة من قبل الوزارة تتناسق مع طبيعة ما تستره تلك المناهج الحقوقية بين دفاتها من خروج سافر عن السياق الثقافي والاجتماعي والوطني للطالب.
وغلب على هذه المناهج محل الأزمة الطابع الإنساني المغلّف بـ«مسكنة» الفلسطيني وإظهاره كائناً ضعيفاً لا يقدر على تحمّل تبعات الحروب وآثارها عبر الإسراف والإفراط في الحديث عن ويلاتها. أمرٌ من شأنه أن ينعكس سلباً على توجّه الطالب وتفكيره، فبدلاً من أن يدعم خياره بامتشاق البندقية وقت نضوجه، ينتابه شعورٌ بالاستكانة والرضوخ للواقع دون أي محاولةٍ للثورة عليه، وهو ربما ما يتساوق مع أهم أركان خطاب سلطة التنسيق الأمني. وفاض المنهاج كذلك بمعلومات مغلوطة ومفبركة عن حقيقة نكبة 1948 وخلفيتها، فأرجع سبب النكبة إلى «انضمام الدولة العثمانية إلى الألمان، ما جعلها تخسر أراضيها» دون أيّ إشارة بسيطة أو تلميح إلى المسؤولية التي تتحملها بريطانيا وإسرائيل. وضيّق المنهاج بنحو ملحوظ فصول معاناة اللاجئين الفلسطينيين. لم تتوقّف «الأونروا» عند هذا الحد، بل عمدت إلى تهميش أيقونات المقاومة الفلسطينية وتغييبها، فيما أسهبت بعرض الخطوات النضالية لرموز عالمية كغاندي ومارتن لوثر وروزا باركي وهيلين سوزمان. إضافةً إلى ذلك، أقصت «الأونروا» من منهاجها الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية أو إرهاصات الانتفاضة الثالثة، ولم تعر أدنى انتباه لمعركة الأمعاء الخاوية التي خاضها الأسرى الفلسطينيون، بينما ركّزت على نماذج دوليّة واسعة كانتفاضة السويتو والماجنا كارتا والأبارتيد، رغم اكتظاظ التاريخ الفلسطيني بنماذج شبيهة بتلك. وحقنت «الأونروا» طلبتها بمورفين «المقاومة السلميّة» عبر إفهامهم أنها السبيل الوحيد نحو الحرية، وفيما عداها لا طائل منه. ويتجلّى هذا الهدف تحديداً في منهاج الصف الثامن. وهي مسألةٌ لطالما كانت سلطة رام الله تلوّح بها.
ومن المضحك المبكي أن العنوان الذي تنطلق «الأونروا» منه، انقلبت عليه بنحو صارخ عبر تقزيمها قضية اللاجئين وإلباسها رداءً مشوهاً لا يتوافق مع حجم المجازر التي عاشها اللاجئون منذ النكبة حتى يومنا الحاضر، فصوّرتهم على أنهم أناس «فرّوا» من ديارهم. وهنا، لا حجّة لـ«الأونروا» بسقوط هذا اللفظ المجحف بحق اللاجئين سهواً في المنهاج، والدليل على ذلك تكراره في أكثر من موضع. غير أن ما يؤخذ على وزارة التربية في غزّة اعتبارها المادتين «16» و«18» من النظام العالمي لحقوق الإنسان مواد مخالفة للدين الإسلامي، رغم أن هاتين المادتين تنضويان تحت حرية المعتقد الديني وفسح المجال أمام الإنسان ذكراً أو أنثى لاختيار شريك حياته بعيداً عن قيود دينية، فتذرّعت الوزارة بعدم جواز زواج المسلمة من شخص لا يعتنق دينها، كذلك عدّت المسلم الذي ينوي تغيير دينه مرتداً يجب قتله، وذلك وفقاً لأحكام شرعية، على حدّ قولها.
ووجّه المدير الإعلامي لوزارة التربية في غزّة، عصام الميناوي تساؤلاً عبر «الأخبار» لـ«الأونروا»: «لماذا رفضوا الكتب المقدمة من الوزارة، وأصروا على الكتب الأخرى التي لا تناسب المجتمع ولا فلسفته ولا ثقافته. هل اسم حقوق الإنسان هو عنوان براق يُخفي تحته أموراً أخرى؟!».
بدوره، نفى المستشار الإعلامي لـ«الأونروا»، عدنان أبو حسنة، اتهامات الوزارة التي عدّها «خطيرة وقاسية جداً». وقال أبو حسنة: «عقدت الأونروا ما يقارب 10 ورشات عمل مع الوزارة حول الموضوع، ولم تعترض عليها إطلاقاً»، نافياً تعارض المناهج مع قيم الشعب الفلسطيني وتقاليده.