طُويت صفحة «الستاتيكو» الذي هيمن على المشهد السوري مدةً طويلة. وبرغم أن الشهرين الأخيرين حفلا باختراقات ميدانية متبادلة للتفاهمات القائمة في شأن إدلب، لم تتجاوز الاختراقات كونها موضعيّة ومرحليّة. أما تطورات الأيام الأخيرة، فجاءت مغايرة لما سبق، وعلى غير جبهة وأكثر من صعيد. إذ تشهد أرياف حلب وحماة واللاذقية حراكاً ميدانياً مستمرّاً تُدرج في إطاره أيضاً عمليات القصف المستمرة لمناطق سيطرة المجموعات المسلحة في أرياف إدلب، ومناطق سيطرة الدولة السورية في حلب واللاذقية وريف حماة. تتضاعف أهميّة هذه التطورات عطفاً على ما قد تُشكّله من تغيير في خريطة التفاهمات السياسيّة بين مختلف اللاعبين المؤثّرين، ولا سيّما «ضامنو أستانا»، سواء كان ذلك التغيير تعزيزاً للتفاهمات القائمة وإنفاذاً للأجزاء المُعلّقة منها، أو تغييراً لها، أو حتى نسفاً كاملاً أو جزئيّاً. وأبرز ما توسم به التطوّرات الميدانية في الأيام الأخيرة أنّها تؤسس مناخاً ملائماً لسحب «قواعد اللعبة» في إدلب ومحيطها من تحت عباءة الرغبات التركيّة. ويبدو جليّاً أن ما ستتمخّض عنه مجريات الميدان في الأسابيع القليلة المقبلة سيُعيد رسم تفاهمات «سوتشي» ومُخرجات «أستانا» بالنّار. ويُشكل ذلك ــــ حال حدوثه ــــ قلباً للمعادلة التي طبعت المشهد السوري في مرحلة «ما بعد حلب». وكانت تلك المعادلة قائمةً على هندسة نتائج معظم المعارك فوق طاولات الساسة (أو تحتها) في شكل استباقي. وحتى وقت قريب، أفلحت أنقرة في ضبط إيقاع جبهات الشمال بالتّناغم مع موسكو، برغم أنّ اتفاقات «المنطقة المنزوعة السلاح» قد مُيّعت ولم تُنفّذ إلا صورياً.
بات معروفاً أنّ هيمنة «هيئة تحرير الشّام» على معظم مناطق إدلب (وأجزاء من ريفي حلب وحماة) في مطلع العام الجاري جاءت بمكانة انقلاب على الأهداف المعلنة لـ«اتفاق سوتشي» الذي كان يُفترض أن يمهّد لتضييق رقعة سيطرة «الجهاديين». أما الجيش السوري، فأفلح خلال اليومين الماضيين في تحقيق تقدّم مهم على محور ريف حماة الشمالي. ولا تقتصر أهميّة هذا التقدّم على عدد وطبيعة القرى والبلدات التي استُعيدت، بل تشمل نقطة بالغة التأثير هي تدشين العمليّات البرية بانتصارات استراتيجية. وبرغم الهجوم المعاكس الذي شنّه مسلّحو «تحرير الشام» و«جيش العزّة» بغية استعادة تل عثمان، نجح الجيش في تثبيت نقاط سيطرته في كل المناطق التي دخلها في اليومين الأخيرين، ما عزّز الأثر النفسي لهزيمة الهيئة وحلفائها.
لا تعكس كواليس «تحرير الشام» استعداداً لإفراغ «المناطق المنزوعة السلاح»


نتائج اليومين الأولين من العمليات تمنح الجيش أفضليّة قطع طرق الإمداد بين قلعة المضيق (ريف حماة الشمالي الغربي)، وبلدة كفرنبودة (ريف حماة الشمالي الشرقي). وتبدو الأخيرة وجهةً مرجحة لعمليات الجيش في الأيام المقبلة، كما يشكل مثلث «مورك، كفرزيتا، اللطامنة» (على المحور المقابل) هدفاً بالغ الأهمية. وتؤشّر كثافة نشاط الطيران الحربي المتزايدة على أنّ تخفيض وتيرة العمليات ونطاقها غير مطروح حاليّاً، بل يبدو أنّ الاستعدادات قد استُكملت على عدد من المحاور الأخرى لتدشين عمليّات بريّة باتت في انتظار «الساعة الصفر».
ومن المنتظر أن تُشكل الضغوط الداخلية التركية عاملاً يحدّ فعالية أنقرة في التأثير بعمليات الجيش السوري راهناً، في ظل انشغال الرئيس رجب طيب أدروغان، وحزبه، في معركة إعادة الانتخابات البلدية في إسطنبول، وتزايد التحدّيات الاقتصاديّة المرتبطة باستقرار الليرة التركيّة. مع كل ما تقدّم، لا يمكن الحديث عن «عملية شاملة» تطمح إلى استعادة كامل إدلب في الوقت الراهن، لا بسبب صعوبة تدشين معركة بهذا الحجم فحسب، بل بفعل التداخلات السياسية الدولية المتوقّعة. ومن المرجّح أنّ السيطرة على «المنطقة المنزوعة السلاح» المُفترضة تُشكل هدفاً أساسياً لعمليات الجيش السوري في مرحلتها الراهنة. ويعزّز ذلك حرص وسائل الإعلام الرسميّة على إدراج عمليات الأيام الأخيرة في إطار «الرد على خروق الإرهابيين».
من دون تقديم نفي أو تأكيد، يشدد مصدر عسكري سوري على أنّ «خريطة عمليات الجيش السوري واضحة منذ زمن طويل، وهي تشمل كلّ المناطق الخاضعة لسيطرة الإرهابيين». ويؤكد المصدر أن «العلم السوري سيرفرف في كل تلك المناطق، السؤال فقط هو: متى؟ والجواب تقرّره القيادة في كل مرحلة، وترون نتائجه في الميدان». في الوقت نفسه، يحرص المصدر على القول إنّ «الجيش قادرٌ على نزع الأسلحة الثقيلة والخفيفة ومن يحملها ما دامت الاتفاقات حبراً على ورق، وإنّ الإرهابيين توهّموا قدرتهم على فرض أمر واقع».
وترجع آخر محاولة روسية ــ تركية، لإنقاذ «تفاهمات سوتشي» إلى آذار/مارس الماضي، حين أُعلن تسيير «دوريات مشتركة». وتكفّل وقت قصير في تظهير حقيقة أنّ المسألة لم تعدُ كونها محاولة تركيّة لـ«شراء الوقت»، ليبوء «تسيير الدوريات» بالفشل بعد أن أحجمت (أو عجزت) أنقرة عن فرضه (راجع «الأخبار» 9 آذار 2018). وحتى الآن، لا تعكس كواليس المجموعات المسلّحة (ولا سيّما «هيئة تحرير الشام») استعداداً لـ«تدارك ما فات» سلميّاً، والرضوخ لفكرة الدوريات المشتركة، وإفراغ «المناطق المنزوعة السلاح». على العكس من ذلك، تؤكد مصادر «جهاديّة»، في حديث إلى «الأخبار»، أنّ «النيّة معقودة على استعادة كل المناطق التي انحاز عنها المجاهدون (في إشارة إلى البانة والجنابرة وتل عثمان الاستراتيجي)». وحتى الآن، يُشكل تكثيف عمليات الجيش السوري عائقاً يحول دون قدرة «تحرير الشام» على شنّ عمليات هجوميّة في محاور أخرى، بغية تخفيف الضغط عن مناطق ريف حماة الشمالي، لكنّ هذا الخيار يظل حاضراً في حسابات «تحرير الشام» وحلفائها.



الأمم المتحدة تطالب بـ«العودة إلى سوتشي»
طالب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بـ«ضرورة حماية المدنيين في إدلب». وأعرب بيان صادر عن المتحدث باسم غوتيريتش عن القلق «إزاء الهجمات الجوية التي استهدفت مواقع تمركز المدنيين والبنى التحتية، وما نجم عنها من مقتل وجرح مئات المدنيين ونزوح أكثر من 150 ألف شخص». ودعا البيان جميع الأطراف إلى «إعادة التزام ترتيبات وقف إطلاق النار ومذكرة التفاهم الموقعة في 17 أيلول 2018». بدوره، حذّر «مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان» من المخاطر التي «تحيق بمئات آلاف النازحين في شمال حماة وجنوب إدلب في ظل التصعيد العسكري الأخير». وقالت المتحدثة باسم المكتب، رافينا شمداساني، إن «الفارين من الأعمال العدائية معرضون لخطر كبير ويواجهون مخاوف خطيرة تتعلق بالحماية على طول الطريق».