في مقالة منشورة في صحيفة «الأخبار» القومية المملوكة للدولة المصرية، كتب رئيس «الهيئة الوطنية للصحافة»، الصحافي كرم جبر، ناقلاً تساؤل رئيس الوزراء الأسبق، شريف إسماعيل، عن سبب تشابه الصحف وعناوينها يومياً «كأننا نرى جريدة واحدة بطبعات مختلفة». جبر طرح التساؤل وهو يعرف الإجابة جيداً، لكن لا يمكنه البوح بها؛ فالرجل الذي كان رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة «روز اليوسف» إبان حكم حسني مبارك، وخرج مطروداً ومضروباً بالأحذية منها بعد «ثورة 25 يناير»، هو نفسه صار مسؤولاً عن اختيار رؤساء تحرير الصحف القومية المختلفة منذ اختياره رئيساً للهيئة، فيما يؤهّل ابنته مي لتكون رئيسة تحرير لإحدى المطبوعات النسائية قريباً.إجابة تساؤل جبر تكمن ببساطة في أن رؤساء تحرير الصحف يتلقون التعليمات من الجهات الأمنية عبر «غروبات الواتسآب» التي أُنشئت خصّيصاً لهذا الغرض، ويصلهم من خلالها ما يجب أن ينشر وما لا يجب، بل تطوّر الأمر إلى وضع عناوين محددة كما حدث عشية إصدار الرئيس عبد الفتاح السيسي توجيهاً إلى الحكومة بتنفيذ حكم لمصلحة أصحاب المعاشات، فخرجت «مانشيتات» الصحف القومية اليومية كلها بالعنوان نفسه، كما تشابهت معها عناوين الصحف الخاصة.
بالرجوع إلى انتخابات 2005، استطاعت صحيفة «المصري اليوم» الخاصة أن تنتزع مساحة من الحرية غير مسبوقة في الصحافة اليومية. مساحةٌ بدأت بنشر شهادة المستشارة نهى الزيني على تزوير الانتخابات في دائرة مصر الجديدة، وهي الدائرة التي يدلي فيها رئيس الجمهورية بصوته، ثم توالت موضوعات أخرى عن فساد الحكومة وخطأ القرارات. أما اليوم، فقد أقيل رئيس تحرير الصحيفة بسبب عنوان «الدولة تحشد المواطنين» في الانتخابات الرئاسية العام الماضي، مع أن التصريح نفسه صدر عن وزيرة الهجرة لاحقاً، لكن الدولة لم تتحمل عنواناً من صحيفة يفترض أنها مستقلة ومُموّلة من رجال أعمال.
وعلى رغم كل ذلك التضييق والتحكم في ما يُنشر، أُوقف بعض الصحف في المطبعة مرات عديدة بسبب عناوينها، كما حدث مع «الدستور» التي تديرها الأجهزة الأمنية، فيما تعرضت إحدى المجلات الأسبوعية لإعدام مئات النسخ بسبب خطأ في اسم زوجة الرئيس. وفي الوقت نفسه، تضغط الدولة على رجال الأعمال باستمرار في حال خالفوا القوانين واللوائح أو جزءاً منها، ويأتيهم التهديد واضحاً ما بين التوقيف والحبس أو الخضوع لما تراه الدولة مناسباً في وسائلهم الإعلامية، وهو ما حدث مع مالك «المصري اليوم» بعدما جرى توقيفه لأيام وإهانته، بل تسريب مقطع فيديو للقبض عليه، ثم هدم مخالفات في الفيلا الخاصة به على النيل.
في إحدى الحالات لم تجد الدولة سوى اتهام صحيفة بنشر صور إباحية لمعاقبتها


أما ناشر «الشروق» (صحيفة خاصة)، إبراهيم المعلم، فقرر أن يبقى بعيداً عن الصدامات مع الدولة. ابتعادٌ ليس اختيارياً، في ظلّ وجود ملفات كثيرة له لدى الأجهزة الأمنية، منها ما هو مرتبط بمخالفات مالية شابت حصوله على حقوق نشر كتب وزارة التربية والتعليم في مراحل سابقة، والأخطر منها علاقته بجماعة «الإخوان المسلمون» المحظورة وقياداتها، ومساندته بعض القيادات المعارضة بعد «30 يونيو»، إضافة إلى إتاحة فرصة لنشر مقالات لهم ولأنصارهم في الصحيفة خلال المرحلة الانتقالية التي سبقت عهد السيسي.
حالياً، تبدو «الشروق» أعلى سقفاً من أي صحيفة أخرى، لكن في حدود لا يُسمح بتجاوزها مطلقاً؛ إذ إن أخباراً كثيرة تُمنع من النشر، وحتى تحليلات الأوضاع السياسية الداخلية التي يكتبها مفكرون مصريون لم يعد لها مكان إلا في إطار معين.
أما الصحف الحزبية، فإن ما تبقى منها، وأبرزها «الوفد»، بات نسخة من الصحف الحكومية مع اختلاف طفيف في الأولويات، في وقت ترفع فيه الصحف القومية جميعاً شعار «التطبيل للسلطة» الذي يركز على الكتابة عن المشروعات القومية فقط، بل لم يعد مسموحاً أن ترى على أوراق أي صحيفة انتقاداً لرئيس الوزراء أو لوزير أو حتى لمحافظ، إنما حصراً نقل ما يرغب فيه الرئيس فقط من دون النظر في أي اعتبارات أخرى. وحتى الشخصيات التي تُجرى معها المقابلات، لا بد أن تكون مؤيدة للنظام، مع أن المضحك المبكي أن بعض المسؤولين السابقين باتوا ممنوعين من الظهور الإعلامي.
معاناة الصحف لا تنحصر في مساحة الحرية، إذ تلاحقها الأزمات المالية مع تراجع حجم الإعلانات بسبب ضعف السوق وخسارة صحف كثيرة أعداداً كبيرة من القراء نتيجة الإقبال على القراءة الإلكترونية، وارتفاع سعر النسخ الورقية من بعد تحرير سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، وهو أصلاً ما انعكس على أسعار المطبوعات عامة، فضلاً عن تراجع المبيعات بصورة كبيرة حتى في الأعداد الأسبوعية. وفي الوقت الذي تتحمل فيه الدولة خسائر الصحف القومية المملوكة لها، لم يعد رجال الأعمال قادرين على تحمّل خسائر الصحف الخاصة التي يديرونها، فلجأوا إلى ترشيد النفقات والبحث عن مصادر أخرى للتمويل، من بينها الربح من الإنترنت.
في المقابل، تستمر بعض المحاولات للخروج من سرب التأييد الجماعي، سواء في صورة صحف خاصة مثل «المشهد»، أو مواقع إلكترونية مثل «مدى مصر». لكن تمثل هذه المنابر مصدر إزعاج للنظام الذي يتربص بها من أجل إيقاع عقوبات عليها، كما حدث مع «المشهد» التي تعرض موقعها للحجب وغرامة مالية بعد نشرها موضوعات عن رفض التعديلات الدستورية. وجاء المبرر القانوني للحجب والغرامة متمثلاً في نشرها صوراً اعتبرها «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» إباحية!
وقبل شهور قليلة، أُقرّت لائحة لتنظيم عمل المواقع الإلكترونية، اشترطت في إنشاء المواقع الخاصة ضوابط من بينها تأسيس شركة ووجود مقرّ وملاك، فضلاً عن سداد رسوم قيمتها 50 ألف جنيه. ووضعت اللائحة ضوابط للعمل لا تتناسب مع طبيعة غالبية المواقع، بينما أقرّت جزاءات من «المجلس الأعلى» تقيّد عمل المواقع وتتيح سلطة الحجب والإغلاق لأبسط الأسباب، على رغم المعارضة القوية من الصحافيين، التي قابلها صمت لـ«نقابة الصحافيين» بعد انتخاب رئيس «هيئة الاستعلامات»، ضياء رشوان، نقيباً الشهر الماضي.



الإعلام الأجنبي... مُرضى عنه اليوم مغضوب عليه غداً
ليس ثمة موقف ثابت للدولة المصرية في التعامل مع أي وسيلة إعلام أجنبية، سواء كان لها مكتب في القاهرة أو تكتفي بإرسال مراسلين بين حين وآخر. فالموقف يُتخذ وفق الموضوعات التي يجري تناولها، لذلك تصير وكالة «رويترز» مثلاً ذات مصداقية في حال إشادتها بمشروع أو نشرها تقريراً يتضمن رصد تغيير ما، وتارة أخرى تصير كاذبة، وهو ما ينطبق على البقية. مثال آخر هو أنه قبل إجراءات الإصلاح الاقتصادي وتحرير سعر صرف الجنيه، كان النظام ينتقد التقارير المتشائمة من «بلومبرغ» عن الإصلاح الاقتصادي، لكن بعد ذلك تحولت المجلة الأميركية إلى «مصدر مهني وحيادي» بسبب تسليطها الضوء على النتائج الإيجابية في الأرقام التي حققها الاقتصاد خلال مدة قصيرة.
هكذا، صارت «الهيئة العامة للاستعلامات»، المسؤولة عن التعامل مع الإعلام الأجنبي، تستخدم لغة الدولة الرسمية في التعامل مع هذه الوسائل، إذ إن الهيئة (تتبع رئاسة الجمهورية ويتولى منصب رئيسها نقيب الصحافيين ضياء رشوان) أرسلت قبل مدة تعميماً ثانياً تطلب فيه «عدم التعامل مع هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي»، طالبة «من جميع المسؤولين المصريين ومختلف قطاعات النخبة المصرية مقاطعة الهيئة... والامتناع عن إجراء أي مقابلات أو لقاءات مع مراسليها ومحرريها حتى تعتذر رسمياً»، معتبرة أن «هذه المقاطعة لا تشمل ولا تمسّ حق بي بي سي وغيرها من وسائل الإعلام الأجنبية المعتمدة في مصر في الحصول على المعلومات والبيانات اللازمة لعملها».
وبذلك، يظهر الموقف المتناقض الذي تمارسه الهيئة في التعامل مع أي تقارير تحمل وجهة نظر مختلفة عن وجهة الدولة، وهو موقف يعكس بوضوح آلية في التعامل تشمل تهديداً مباشراً للجميع: إما عرض الإنجازات كما تفعل وسائل الإعلام المحلية، أو المنع وعدم التعاون في أي أمر مرتبط بالتغطية والعمل داخل البلاد!