يشعر رئيس حكومة «الوفاق الوطني»، فائز السراج، العائد إلى طرابلس من جولة أوروبية انتهت أمس، بالمرارة من مواقف الدول المؤثرة في الملف الليبي هناك، حيث طاف بين روما وبرلين وباريس ولندن. لكن السراج يبدو غير مستعد لرمي المنديل وتسليم البلاد للمشير خليفة حفتر، فقد بدأ قبل عودته إلى ليبيا بتطبيق خطة بديلة، قوامها سحب البساط من تحت أوروبا وبسطه للأميركيين سياسياً واقتصادياً.وفي خطوة مفاجئة، أصدرت وزارة الاقتصاد والصناعة، أول من أمس، قائمة بأربعين شركة أوروبية، معظمها فرنسية، مع بعض الشركات الألمانية والإيطالية، قالت إن رخَص عملها في ليبيا انتهت، معلنة إيقاف نشاطها إلى حين تسوية أوضاعها، بعدما غلَّفت القرار بحجج تقنية ــــ قانونية. لكن طابع القرار السياسي بدا أوضح في إطار معاقبة الأوروبيين، ولا سيما الفرنسيين، على مواقفهم «المحايدة»، بل الداعمة أحياناً لهجوم حفتر على العاصمة.
تحدث كثير من المراقبين عن النتائج السلبية التي يمكن أن تترتب عن القرار، إذ لن يصمت الأوروبيون عن إيقاف نشاط أكبر شركاتهم العاملة في قطاعات النفط والبنى التحتية والتخطيط. لكن شيئاً فشيئاً يتضح أن لـ«الوفاق» خطة بديلة تحاول بمقتضاها دفع الولايات المتحدة إلى وضع ثقلها في الملف الليبي، واعتماد حكومة طرابلس كشريك سياسي واقتصادي بدلاً من حفتر.
وفي محاولة لإجهاض جهود حلفاء خليفة حفتر، وخاصّة الثلاثي مصر والإمارات والسعودية، الذين توسطوا لإقناع الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومستشاره للأمن القومي، جون بولتون، بإعطاء المشير ما يشبه الضوء الأخضر للهجوم على العاصمة، منتصف الشهر الماضي، في مكالمتين تمّتا بجهود من شركة علاقات عامة تدعى «يورك تاون سلوشنز» التي تعاقد معها رجل الأعمال المقرب من حفتر، حسن تتناكي، تسعى «الوفاق» إلى التأثير بشكل مضاد على الإدارة الأميركية، فقد وقّعت عقداً مع شركة «ميركوري ببلك أفارز» للعلاقات العامة الأميركية، يوم 25 نيسان/ أبريل الماضي، بقيمة مليوني دولار، وهو عقد يمتد لعام كامل، ويبدو أن قطر وتركيا بذلتا جهوداً لتوقيعه، لأن كلتيهما تتعامل مع الشركة نفسها.
يأتي هذا العقد بعد فترة فراغ دامت أكثر من عامين كانت «الوفاق» قبلها متعاقدة مع شركة «الإسكندرية غروب» لتسهيل تواصلها مع مسؤولين أميركيين، كما وقعت بداية هذا الشهر عقداً آخر مع شركة «برايم بوليسي غروب» يقضي بتقديم نائب رئيس المجلس الرئاسي للحكومة، أحمد معيتيق، إلى أعضاء من الكونغرس والإدارة، ليشرح وجهة نظرهم حول الحرب. وقد أدت جهود الضغط هذه في خطوة أولى إلى تنظيم مكالمة بين عضو الكونغرس المقرب من ترامب، ليندسي غراهام، مع السراج نهاية الشهر الماضي، إضافة إلى السعي لتنظيم لقاءات لمعيتيق في المستقبل القريب.
وبالتوازي مع دخول ساحة جماعات الضغط الأميركية، تقدم «الوفاق» إغراءات اقتصادية إلى إدارة ترامب، كما بدا في مضمون مقالة نشرها رئيس «المؤسسة الوطنية للنفط»، التابعة للحكومة نفسها، مصطفى صنع الله، في وكالة «بلومبيرغ». ودافع الأخير، وهو المسؤول الأول عن إدارة القطاع الطاقي في ليبيا، عن برامج حكومته، وهاجم حفتر قائلاً إن «الوفاق» تعمل منذ تشكيلها بداية 2016 على «استعادة القدرة الإنتاجية للقطاع الطاقي الليبي»، وإنها نجحت في «إعادة الإنتاج النفطي إلى أكثر من مليون برميل يومياً، وتحاول تحسينه أكثر». لكنه رأى أن نشاطات حفتر تهدد سلامة القطاع، مشيراً إلى أنه سخَّر أخيراً مهابط جوية وموانئ وسفناً تتبع منشآت نفطية في هجومه على طرابلس، كما اختطف مسؤولاً نفطياً شرق البلاد.
لم تكن مقالة صنع الله من دون سياق، إذ جاءت في خضم زيارة له للولايات المتحدة امتدت نحو أسبوع، توجه فيها إلى مدينة هيوستن تحديداً حيث افتتح مكتباً لمؤسسته، هو الأول خارج البلاد، وكان قد وعد بفتحه منذ عامين. وفيما كان يقول سابقاً إن فتح المكتب سيترافق مع حملة شراء معدات بغاية تجديد وتطوير أنشطة «مؤسسة النفط» بقيمة 20 مليار دولار، رفع صنع الله المبلغ في زيارته الأخيرة إلى 60 ملياراً. وتبدو وعود الشراء هذه، التي تندرج ضمن هدف رفع إنتاج ليبيا إلى 2.1 مليون برميل نفط يومياً في أفق 2030، كرسالة سياسية إلى لوبي النفط الأميركي، على أمل أن يؤثر ذلك في مواقف إدارة ترامب تجاه ما يجري في طرابلس.
طالب السراج واشنطن بالضغط على حلفائها لوقف دعم حفتر


آخر الخطوات التي بذلتها «الوفاق» كانت نشر مقالة في موقع صحيفة «ذي وول ستريت جورنال»، موقعة باسم فائز السراج. وحملت المقالة عنوان «لا يمكن لليبيا أن تقبل طاغية آخر»، واستعرضت السياسات الإصلاحيّة التي تبنتها حكومته وصولاً إلى الهجوم على طرابلس التي دافعت فيها «عن المدنيين من رجل اتهمت المحكمة الجنائية الدولية قواته بارتكاب جرائم حرب». واستعرض رئيس الحكومة العيوب الأخرى التي تشوب قوات حفتر من احتوائها مرتزقة تشاديين وسودانيين، إلى سطو نجله على مئات ملايين الدولارات من فرع «مصرف ليبيا المركزي» في بنغازي، وصولاً إلى توريط البلاد في ديون غير قانونية لتمويل حربه. وكخلاصات، قال السراج: «ليبيا لن تكون حرة بلا شك تحت حكم حفتر»، مضيفاً إن هناك دولاً لم يسمّها «تستخدم ليبيا كأرض حرب بالوكالة بحثاً عن نفوذ جيوسياسي»، وهي تجعل «حرب حفتر ممكنة بتوفير المال والتدريب والتسليح لقواته». غاية السراج النهائية عبر عنها صراحةً بالقول إن «ليبيا تحتاج إلى الولايات المتحدة للمساعدة على إيقاف دول أخرى من التدخل في شؤوننا».