عمان | هذه ليست المرة الأولى التي تمرّ فيها عمّان بعزلة تجعلها بعيدة عن غرف الاجتماعات. فقبل عام من اليوم، تحديداً بعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس «عاصمة لإسرائيل»، كانت «المملكة الأضعف» وحيدة ومُغيّبة، إلى أن ظهر فجأة رئيس حكومة العدو الإسرائيلي المكلف، بنيامين نتنياهو، في الأردن منتصف حزيران/ يونيو الماضي، في زيارة هي الأولى له للمملكة منذ سنوات. وتلت ذلك زيارة للملك عبد الله الثاني لواشنطن، بدا أنها حلحلة لعجلة العلاقات المتكلّسة، التقى خلالها ترامب، لكنهما من بعدها لم يجتمعا على رغم زيارة الملك واشنطن مجدداً، ولمرات كان آخرها آذار/ مارس الماضي.وفق الأوساط المطلعة، يسيطر التوتر على الملك الذي يبدو بكامل حضوره محلياً، فاللقاءات الاجتماعية والعسكرية لم تتوقف، وبات ملحوظاً وجود ولي العهد، ابنه حسين، إلى جانبه في زياراته الرسمية الخارجية. وإن بدت الأمور تسير ظاهرياً على نحو طبيعي مع واشنطن أو الخليج، فإن المعادلة داخل حلف واشنطن في الإقليم اختلفت، وتأكد أن المتضرر الأول من «صفقة القرن» بعد الفلسطينيين هو الأردن الذي يبدو مكشوف الظهر للحلفاء هذه المرة. ضمن هذه المعادلة، جاءت زيارتا عبد الله المتتابعتين للكويت والإمارات، وهما الدولتان اللتان حضرتا «القمة الرباعية» في مكة العام الماضي، التي اقترحها الملك السعودي سلمان لدعم الاقتصاد الأردني بعد اندلاع احتجاجات سقطت بسببها حكومة، لكن استمر بعدها النهج الاقتصادي نفسه الذي هتف المتظاهرون ضده.
هكذا، لم تكن مستغربة زيارة الكويت قبل نحو أسبوع، حيث التقى عبد الله الأمير صباح الأحمد الصباح. فالكويت، من وجهة نظر الأردن الرسمي، تمثل على أقل تقدير «النهج الخليجي المعتدل» وغير الباحث عن المتاعب التي نشبت مع جيل الأمراء الأصغر سناً منذ ظهور محمد بن سلمان ومحمد بن زايد كلاعبين في البلاط الخليجي، واختفاء الزعامات الخليجية التقليدية الكبيرة السن بالموت أو التنحية، ومن بعدها تأثر الأردن بهذه التجاذبات، خصوصاً من ناحية الدعم المادي وطبيعته. لكن زيارة عبد الله للإمارات كانت غريبة إلى حدّ ما، حيث ظهر فيها مع ولي عهد أبو ظبي، ابن زايد، في محاضرة طبية! ومن الواضح أن عبد الله لم يكن يبحث عن معلومات إضافية عن «طب الأطفال»، بل يسعى للتموضع في زاوية مريحة تضمن استمرار عرشه ومملكته بعيداً عن المواجهة المباشرة والاستحقاق المؤلم جراء التغييرات الآتية بمباركة سعودية، ولا سيما موضوع الوصاية الدينية على الأماكن المقدسة، لكن لا يبدو أنه وجد مراده في هذه الزيارة القصيرة.
ثمة ترويج أردني داخلي لـ«ضرورة» المشاركة في «ورشة البحرين»


بعدها بيوم واحد، ومن دون إعلان مسبق، وصل إلى العاصمة الأردنية الرئيس العراقي برهم صالح، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ليعقدا في ضيافة عبد الله اجتماعاً ثلاثياً تحت عناوين بروتوكولية لم تتناول دور «الإطفائيّ» الذي تؤديه بغداد بين واشنطن وطهران، وربما كانت تؤديه الآن مع رام الله، على أن مكان اللقاء المناسب للطرفين هو عمّان. ووفق الأوساط نفسها، هذه القنوات الجديدة التي تنفتح أمام الأردن «تعطي شعوراً جزئياً بالراحة»، مع أن ثقل أي تكتل محتمل بوجود هذه الأقطاب الثلاثة وفوقها الكويت لن يشكّل حائط صدّ لنيات الرياض التي باتت مكشوفة أكثر بعد إعلان مشاركتها في ورشة البحرين الاقتصادية.
وإلى الآن، لم يعلن الأردن المشاركة رسمياً في الورشة، لكن التسويق للمشاركة انطلق داخلياً من جهات عدة، خاصة أن المملكة لم يسبق لها أن تجنّبت أي مؤتمر يتحدث عن الاستثمار والازدهار والسلام، وهي أسطوانة مكررة سمعها الأردنيون منذ الترويج لـ«وادي عربة» قبيل توقيعها عام 1994. كل المؤشرات تؤكد المشاركة الأردنية، وقد تحسم مهاتفة الملك البحريني، حمد بن عيسى، لنظيره الأردني الأمر قريباً. كذلك، يبدو أن الابتزاز المالي الذي مارسته السعودية والإمارات في «مؤتمر مكة» آتى أكله، ويظهر ذلك جلياً مع إعلان الحكومة الأردنية نيتها التفاوض مع الرياض وأبو ظبي لتحويل وديعتيهما في البنك المركزي إلى قروض ميسّرة للمملكة (الوديعتان بقيمة 660 مليون دولار لدعم الدينار مقابل العملات الأجنبية).
ولا يُنسى أن عمّان تبدو في أسوأ أوضاعها سياساً واقتصادياً، ولا سيما مع تعثر الوضع الاقتصادي مجدداً، واضطرار المملكة إلى تقديم الكثير من التنازلات (حتى أكثر مما كانت تقدّم) على أمل حدوث انفراج اقتصادي عبر المساعدات الخليجية والدولية المشروطة، وكذلك أمام إخفاق الدولة في تحصيل الوعود السخية من مؤتمرَي لندن وبروكسل، حيث يقف المراقبون مدهوشين من حجم تمويل خطة الاستجابة للأزمة السورية المقدّرة أردنياً بـ2.400 مليار دولار لعام 2019. وعملياً، لم يُحصَّل 1% من هذه التعهدات مع مضيّ النصف الأول من العام الجاري، ليظهر الأمر على صورة العصا من دون الجزرة. فعلى رغم «كلا» الثلاثية التي أطلقها الملك في «مواجهة التوطين وإسقاط حق العودة والتنازل عن القدس»، تلوح العصا ليس لتصحيح الخطأ اللغوي في استخدام الكلمة فقط، بل لرفض التمنع الأردني حتى لو كان ضعيفاً حيال ما فصّلته واشنطن ولبسته السعودية وتريد إلباسه لكل المنطقة.