تونس | تعيش «الجبهة الشعبية» أزمة داخلية منذ أشهر، تصاعدت إلى أن وصلت إلى حدّ تقديم أغلب نوابها البرلمانيين استقالاتهم من كتلتها أول من أمس، ما يُهدّد بحلّ الكتلة وتعميق الخلافات داخل أكبر تجمع يساري في البلاد، ويضع مصيره في الانتخابات المقبلة نهاية العام الحالي على المحكّ. و«الجبهة الشعبية» تكتّل تأسّس نهاية عام 2012، بهدف تجميع القوى اليسارية، بمن فيها الماركسيون والقوميون العرب والديموقراطيون الاجتماعيون، التي فشلت في تحقيق نتائج إيجابية في انتخابات عام 2011. آنذاك، وبعد أسابيع من فرار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، حاولت «الجبهة» تأطير الموجة الثورية، لكنها فشلت بسبب خلافات منهجية بين أطرافها. لاحقاً، بعد عام، نجحت تجربة «الجبهة الشعبية» لعدد من العوامل، منها تركيز قواها على أهداف واضحة، انتخابية بالأساس. كذلك أدى فوز «حركة النهضة» في انتخابات «المجلس التأسيسي» دوراً حاسماً في تجميع مكوناتها التي تتقاسم الخشية من تعاظم سطوة الإسلاميين، عدوّها التاريخي، بالإضافة إلى اكتساب قيادات من اليسار نوعاً من الواقعية والقبول بتقديم تنازلات، أهمها تكريس الأمين العام لـ«حزب العمال»، حمة الهمامي، قائداً فعلياً للمشروع.لكن بعد فترة وجيزة على تأسيسها، واجهت «الجبهة الشعبية» تحدّياً وجودياً، حين اغتيل اثنان من قيادييها، هما شكري بالعيد ومحمد البراهمي، في ظرف ستة أشهر. وعلى رغم أن الاغتيالين أضرّا بالتحالف، إلا أنهما أسهما في لفت الانتباه إليه، وأكسباه شرعية وزخماً في قيادة الاحتجاجات ضد التحالف الحاكم الذي يقوده الإسلاميون، ما أدى في نهاية المطاف إلى تنظيم حوار وطني قاد إلى حكومة مؤقتة للإشراف على انتخابات. عام 2014، حصلت «الجبهة» على 15 مقعداً برلمانياً، وهي نتيجة مهمة مقارنةً بنتائج اليسار في الانتخابات السابقة، كما نال مرشحها للرئاسة، حمة الهامي، ما يقارب مئتي ألف صوت، وهو ما يمثل في العموم حصيلة يمكن البناء عليها. ومع قدوم يوسف الشاهد على رأس الحكومة عام 2016، حصلت حادثة استثنائية ألقت ظلالاً من الشك حول تماسك «الجبهة»، حيث تناقش النائب منجي الرحوي مع الشاهد في إمكانية توليه وزارة المالية ضمن ما اصطلح عليه في حينها بـ«حكومة الوحدة الوطنية»، لكن الرحوي رفض في الأخير تولي الحقيبة، وأثار الأمر موجة من النقاش داخل أحزاب «الجبهة الشعبية»، خاصة أن النائب لم يستشر بقية القيادات في الأمر.
ترجح استطلاعات الرأي أن «الجبهة» لن تُحرز نتائج أفضل مما حققت قبل خمسة أعوام


وفيما اعتُبر سلوك الرحوي خروجاً عن نواميس العمل الجبهوي، دافع الرجل عن نفسه باعتباره من أنصار المرونة السياسية، وسانده في موقفه «حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد» الذي ينتمي إليه. شيئاً فشيئاً، اتخذ هذا النقاش طابعاً أكثر شمولية، صعّد الرحوي وحزبه الموقف على إثره، وجعلاه موجهاً ضد الناطق الرسمي باسم «الجبهة»، حمة الهمامي، الذي اتُّهم بالفشل في تطوير خطاب التحالف وشكله التنظيمي وامتداده الشعبي. واتخذت هذه الانتقادات طابعاً منتظماً، وتحولت إلى ما يشبه النزاع بين «حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد» و«حزب العمال»، وهما يمثلان الخطين الماركسيين الأساسيين في تونس منذ منتصف الثمانينيات، وقد كان التخاصم السمة الغالبة على علاقتهما. هنا، رأى «حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد» أنّ من الضروري التداول على منصب الناطق الرسمي باسم «الجبهة»، وأن من حقه اقتراح مرشح للانتخابات الرئاسية. لكن هذه المسائل لم تحسم في «الندوة الوطنية» الأخيرة لـ«الجبهة الشعبية»، ولم يكن كافياً تشكيل «لجنة مركزية» كهيكل قيادي إضافي لمجلس أمناء الأحزاب، لإقناع الحزب بالتخلي عن مطالبه، ما دفع إلى تقديم مطلب أخير والتشبث به، وهو تنظيم «استشارة موسعة» لمناضلي «الجبهة» من أجل تحديد مرشحها للرئاسيات.
في مقابل ذلك، ردّ «حزب العمال» بأن حمة الهمامي يحظى برضى أغلب الأحزاب داخل التحالف، وأن مجلس أمناء الأحزاب هو الوحيد المخوّل حسم القضايا المماثلة، وبالتالي، تعتبر بقية الاقتراحات غير ضرورية ولا فائدة منها، وهي لا تتماشى مع طبيعة العمل الجبهوي. لكن «حزب الوطنيين الديموقراطيين الموحد» لم يقتنع بهذا الرد، وقرّر التصعيد من داخل البرلمان هذه المرة، فجمع نوابه وبعض النواب الآخرين داخل كتلة «الجبهة الشعبية»، وبعضهم من أعضاء «حزب العمال» الغاضبين، وطلب دمجهم في النقاشات حول الانتخابات المقبلة، في تحديد القوائم النيابية واخيار مرشح الرئاسة. وتهدف هذه الخطوة إلى تجاوز الأغلبية الموجودة داخل مجلس أمناء الأحزاب، لكن الأخير رفض دمج النواب في النقاشات، ليقرر هؤلاء ـــ وهم الأغلبية داخل الكتلة (عددهم تسعة) ــــ أول من أمس تقديم استقالاتهم، ما يعني أنه في حال عدم التراجع عن الاستقالة خلال خمسة أيام من تقديمها، ستُحلّ الكتلة برمتها؛ إذ يحدد القانون الداخلي للبرلمان العدد الأدنى لتشكيل كتلة بسبعة نواب.
حتى الآن، يتخذ الصراع داخل «الجبهة الشعبية» طابعاً تصعيدياً، ولا توجد بوادر للوصول إلى حل وسط، علماً أن التنازع حول المرشح للرئاسيات يمثل مجرد واجهة للصراع، فالأمل في الفوز بها منعدم أياً كان المرشح. أما محور الصراع فيتمثل في تحديد المواقع في قوائم الانتخابات النيابية، لما لها من بُعد رمزي مرتبط بالتنافس بين الحزبين الأكبر داخل «الجبهة» حول تزعمها، وهو في حقيقة الأمر تنافسٌ على تزعم اليسار بصفة عامة، الذي يحضر أيضاً في التموقع داخل الهياكل القيادية لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل» و«الاتحاد العام لطلبة تونس» وبعض المنظمات الحقوقية والمهنية.
الرهان الأكبر الذي يبدو غائباً عن المتصارعين، هو الحفاظ على القاعدة الانتخابية لناخبي «الجبهة الشعبية» وتوسيعها. إذ ترجّح استطلاعات الرأي أن «الجبهة» لن تُحرز نتائج أفضل مما حققت قبل خمسة أعوام، وستكون الحال أسوأ لو تفتّتت ودخلت أحزابها الانتخابات فرادى، خاصة في ظلّ وجود تشكيلات سياسية صاعدة تنافس على نيل ثقة القاعدة الانتخابية نفسها.