وضع تهوّر «المجلس العسكري» وحماسة الداعمين الخليجيين المشهد في السودان أمام مرحلة جديدة يبدو العسكر في الحلقة الأضعف فيها، في ظل انسداد أفق التفاوض الذي كان يسمح له بالتسويف والمماطلة في تسليم السلطة للمدنيين، وافتضاح نياته في الاستئثار بالسلطة داخلياً وخارجياً، ما يضعه أمام تحديات عديدة، تبدأ من الشارع ولا تنتهي بالمؤسىسة العسكرية.لم يصمد «المجلس العسكري» الانقلابي طويلاً خلف قناع الثورة، حتى أظهر وجهه بـ«ثورة مضادة» تبدو في تهوّرها علامات الوصاية السعودية ــ الإماراتية، وآخر فصولها مجزرة راح ضحيتها أكثر من ثلاثين قتيلاً وأكثر من مئة جريح، خلال اقتحام موقع الاعتصام أمام مقر قيادة الجيش ــ الذي استمر نحو شهرين وأفضى إلى إطاحة حكم عمر البشير ــ وذلك في محاولة لتصفية الحراك الشعبي الذي يطالب بحكم مدني يقود البلد نحو تحوّل ديموقراطي. ويبدو الهجوم الذي يُطلق عليه محتجّون اسم «مجزرة رابعة السودان»، لتشابهها مع ما وقع في 14 آب/ أغسطس عام 2013 في مصر، وتعبر عنه قنوات «الوصاية» الخارجية بـ«أحداث الاعتصام»، مكتمل الأركان وعن سابق إصرار وتصميم: بدأ بتخوين المحتجين قبل أيام قليلة على لسان نائب رئيس المجلس، محمد حمدان دقلو، الملقب بـ«حميدتي»، ثم إغلاق كل الطرق المؤدية إلى مداخل الاعتصام في العاصمة صباح أمس، واستُكمل بمحاولة عزل المعتصمين عن وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، قبل الانقضاض عليهم بوحشية وثّقتها عدسات المعتصمين، فيما أظهرت لقطات تلفزيونية حية النار وهي تشتعل بخيام المحتجين، في مشاهد كشفت معالم «انقلاب ثالث» على الإرادة الشعبية هذه المرة، بعد انقلاب ثانٍ قاده رئيس المجلس الفريق عبد الفتاح البرهان، ونائبه دقلو، على الفريق عوض بن عوف، الذي أعلن بيان الانقلاب على الرئيس المخلوع قبل 55 يوماً.
يقطع الهجوم الدموي، في آخر أيام شهر رمضان، كل طرق المسار السياسي، بحسب ما يؤكد قادة الاحتجاج، بعد جولات تفاوضية ثلاث، انفضَّت مع طرح ملف «المجلس السيادي» الذي يمثل رأس الدولة، على الطاولة. لكن في ضوء التنديد الدولي، لا سيما من الولايات المتحدة التي أعطت الضوء الأخضر للعسكر للاستئثار بالسلطة من خلال لقاءات القائم بأعمال سفارتها في الخرطوم، ستيفن كوتسيس، بأعضاء المجلس، لا سيما «حميدتي»، إضافة إلى تنديدات أوروبية وأممية، سارع العسكر إلى الدعوة إلى استئناف المفاوضات، وإلى الدعوة إلى عودة المعتصمين إلى جوار مقر قيادة الجيش، مبرّراً الجريمة بالقول إنه كان يحمي المعتصمين! وزاعماً أنه كان يستهدف فقط منطقة «كولومبيا» المجاورة لمقر الاعتصام، التي وصفها بـ«البؤرة الإجرامية الخطرة»، على اعتبار أن المنطقة التي تعرف بتردّد مدمني ومروجي المخدرات، «تؤثر أيضاً على أمن الثوار في منطقة الاعتصام».
قد تدفع «مغامرة» العسكر الجيش إلى انقلاب ثالث ضد مجلس البرهان و«حميدتي»


لكن تبرير العسكر لم ينطلِ على العواصم الغربية، إذ اعتبرت واشنطن الهجوم «خطأً»، وحمّلت المجلس مسؤوليته، فيما أكد السفير البريطاني في السودان، عرفان صديق، في تغريدة على موقع «تويتر»، أن «لا عذر لأي هجوم من هذا القبيل»، كما أكدت الحكومة الألمانية أن «هذا العنف غير مبرر».
إزاء ذلك، أكد قادة الحراك الشعبي تمسّكهم بـ«تنفيذ العصيان المدني الشامل والإضراب السياسي»، كونه «الطريق إلى إسقاط طغمة المجلس العسكري الانقلابي المجرم... واستكمال ثورة شعبنا المجيدة»، وفق بيان «تجمّع المهنيين السودانيين» المنظم للاحتجاجات، داعياً «المواطنين في كل مدن وقرى السودان إلى مواصلة الحضور في الشوارع بكثافة ومواصلة التظاهر الليلي السلمي»، و«إغلاق كل الطرق الرئيسية والكباري والمنافذ بالمتاريس، والعمل الجاد على شل الحياة العامة تماماً»، و«تكوين فرق لحماية الأحياء وتقديم الخدمات للمحتاجين من الأهالي».
أعاد تهوّر العسكر المشهد السوداني إلى مرحلة احتجاجات كانون الأول/ ديسمبر المفتوحة في مختلف المناطق ضد السلطة، لكن هذه المرة ضد «المجلس» الذي يعدّ نفسه جزءاً من «الثورة»، كونه استجاب لدعوات المعتصمين قبل الـ11 من نيسان/ أبريل، بحسم الموقف ضد البشير. فكما كان الأخير يمدّ يداً للحوار، وبالأخرى يمارس العنف المفرط، يتجه «العسكري» إلى السياسة نفسها، التي تسمح له بـ«التسويف» والبقاء أكثر في السلطة. ويشي ذلك بأن العسكر باتوا في الحلقة الأضعف، كما كان البشير، بينما يُجمع المراقبون، على أن تحالف قوى «إعلان الحرية والتغيير» هو الأقوى في الساحة السياسية، كونه المحرّك والمنظّم الرئيس للحراك الشعبي، علماً بأنه ما كان لـ«العسكري» أن يستمر في السلطة حتى الآن لو لم تعقد المفاوضات التي خاضها مع التحالف المعارض. ويؤكد ذلك خضوع المجلس للمفاوضات بضغط شعبي باستمرار، في ظل محاولاته عدم الاعتراف بقادة المعارضة كممثلين حقيقيين للشعب تارة، أو توسيع دائرة التفاوض مع قوى سياسية كانت مشاركة في النظام البائد تارة أخرى، لكن قوى «الحرية والتغيير» أنهت محاولات «العسكر» تلك، بمسيرة مليونية تطالب بسلطة مدنية، سلمته على إثرها وثيقة دستورية تتضمن رؤية الحراك الشعبي للمرحلة الانتقالية.


ورغم أن العودة إلى طاولة المفاوضات تبدو صعبة، في ظل الدعوات المبرمجة إلى التصعيد من قبل التحالف المعارض، لا شك في أن الاستجابة لدعوة المجلس لاستئنافها، أمس، تتطلّب تنازلات، أو على الأقل ضمانات بتشكيل سريع لسلطة ذات أغلبية مدنية بأركانها الثلاثة: «السيادية» و«التنفيذية» و«التشريعية»، وهو ما لا يتم ــ كما يبدو ــ إلا بقرار خارجي يدفع «العسكري» إلى التنازل حفاظاً على نصيبه في السلطة. وتبدو سياسية الوصيَّين الخليجيين السعودية والإمارات قائمة على هذا الأساس: التنازل للحفاظ على قدر من السلطة، وقد بدت بشكل واضح إبان الانقلاب على وزير الدفاع بن عوف، المرفوض شعبياً، وإزاحة رئيس جهاز الأمن والمخابرات صلاح قوش عن المشهد، ودفع البرهان إلى تولي رئاسة المجلس، كونه كان يعتبر أكثر قبولاً لدى الشارع، في حين كانت تمهّد لـ«حميدتي» الذي عمل مع الأخير في اليمن لسنوات في إطار «التحالف» السعودي ــ الإماراتي، لتسلمه السلطة، من خلال مغازلة المحتجين ورفضه المشاركة في مجلس بن عوف، على اعتبار أنه يؤيد مطالب الشعب ببناء دولة مدنية، وهو سرعان ما انكشف زيفه لاحقاً، بمواجهته المعتصمين المطالبين بمدنية السلطة، وإقدام قوات «الدعم السريع» التي يرأسها على هجمات راح ضحيتها العشرات في ساحة الاعتصام.
وقد تدفع «مغامرة» العسكر الجيش ــ المؤسسة الأكثر رسوخاً ــ إلى انقلاب ثالث ضد مجلس البرهان و«حميدتي»، بتأثير من الضباط الصغار، الذين باتوا يستاؤون من تشوّه صورة الجيش بسبب ممارسات «العسكري» وذراعه الأكثر حضوراً «الدعم السريع»، خصوصاً أن التصعيد في الشارع من شأنه التأثير على صغار الضباط والجنود الموجودين في ساحة الاعتصام، كونهم في كثير من الأحيان، على السواء مع المحتجين، يقعون ضحية الهجمات التي تشنّها «الدعم السريع»، في ظل تعارض موقف المجلس الرسمي الذي يؤكد أنه لا يريد فضّ الاعتصام، والواقع على الأرض، بما يفتح الباب أمام سيناريو انتفاضة 1985 التي أطاحت الرئيس جعفر النميري. وليس مستبعداً، في هذا الإطار، أن تسعى الرياض وأبو ظبي إلى تقديم البرهان «كبش فداء» لإرضاء الشارع والجيش، كما قُدّم بن عوف، ومن ثم تصعيد «حميدتي»، الذي يبدو الأكثر قرباً من المشيختين الخليجيتين. لكن ذلك لا يبدو ناجعاً، في حين يصبّ المحتجون جام غضبهم على قوات «الدعم السريع»، ويحملونها مسؤولية ما يحدث في ساحات الاعتصام، علماً بأن الكثير من ضباط الجيش يرفضون محاولة «تطهير» المؤسسة العسكرية من الإسلاميين، الذين أحيل العديد منهم، ضباطاً وجنوداً، إلى التقاعد، في عملية تهميش بدت متسارعة، من خلال تجنيد مئات الشبان لحساب قوات «الدعم السريع»، لا سيما من القبائل، لتصبح قوة موازية تسمح بتفكيك القوات المسلحة، وصولاً إلى تكوين قوة عسكرية مستدامة الولاء لمحور السعودية والإمارات تحت قيادة «حميدتي». لكن ذلك، بحسب محللين، لا يلقى ترحيب القاهرة، التي تخشى انزلاق البلد الجار إلى مستنقع الفوضى، الذي ستكون مصر أولى ضحاياه، خصوصاً في ظل تعدد الميليشيات المسلحة، في حين أن قوات «الدعم السريع» المتضخمة لا تمتلك خبرات الجيش الذي خضع لتدريب وتسليح على مدى 70 عاماً، وقد لا تتمكن من ضبط الأمن.


مجزرة القيادة العامة على طاولة مجلس الأمن


طالبت بريطانيا وألمانيا بعقد جلسة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الأزمة في السودان، وفق ما أفاد دبلوماسيون، وذلك بعدما فضّت قوات الأمن السودانية اعتصاماً أمام مقر قيادة الجيش في البلاد باستخدام القوة المفرطة، ما أسفر عن مقتل أكثر من 30 شخصاً. ومن المتوقّع، بحسب الديبلوماسيين، أن تعقد جلسة مغلقة للمجلس اليوم.