تُخلّف الجولة الاستطلاعية داخل جامعة حلب انطباعات متداخلة، أولها الشعور بالدهشة. المتابعون للشأن السوري يتذكرون جيداً كيف كانت الجامعة مسرحاً لأولى شرارات التظاهر في المدينة، التي حافظت على استقرارها شهوراً طويلة من عمر الأزمة، فيما العملية التعليمية تتواصل فيها اليوم كأن شيئاً لم يكن! وبرغم أن الازدحام داخل كلية الآداب والعلوم الانسانية يبدو أقل مما كان عليه قبل عامين، لكنها لا تزال أكثر الكليات ازدحاماً، نتيجة كثرة عدد الأقسام التي تضمها.
الحركة في أروقة الكلية لا تهدأ، ويواصل بعض المدرسين مناقشات «حلقات البحث» التي أعدها الطلاب على أبواب الدورة الامتحانية الأولى، فيما يبدو عدد الطلبة داخل المدرجات الكبيرة في الكلية أقلّ من المعتاد. تعزو فاتن، الطالبة في قسم اللغة العربية، الأمر إلى انهماك الطلاب في الإعداد للامتحان: «كليتنا واحدة من الكلّيات النظرية. والطبيعي أن يقلّ عدد الطلاب الذين يحضرون المحاضرات بالتناسب مع اقتراب موعد الامتحان. معظمهم يفضلون الدراسة في منازلهم في هذه الفترة»، فيما يلفت محمد، أحد الموظفين، إلى عامل إضافي مهم، فيقول لـ «الأخبار» إن عدداً كبيراً من طلاب الجامعة ليسوا بالضرورة من أبناء حلب، وهؤلاء عادوا إلى محافظاتهم، كما أن عدداً آخر من الطلاب الحلبيين انتقلوا مع أسرهم للسكن في محافظات أخرى أكثر استقراراً. ويضيف: «اتخذت وزارة التعليم العالي قراراً يتيح لهؤلاء التقدم بامتحاناتهم في الجامعات الأخرى. فعلى سبيل المثال، يمكن لطلاب جامعة حلب، الذين انتقلوا للإقامة في اللاذقية، أن يتقدموا بامتحاناتهم في جامعة تشرين. لا يتطلب الأمر سوى تقديم طلب خطي إلى منسق جامعة حلب المُعتمد هناك، وهذا ينطبق على طلبة كل الجامعات الرسمية».
في كلّية الطب نحاول العثور على طلاب شاركوا في التظاهرات التي نشطت في العام الدراسي 2011 – 2012، لكن الأمر يبدو صعباً. «اللي تظاهر ونفد من الاعتقال ما رح يخبرك عن حالو طبعاً» يقول أحد الطلاب، قبل أن يتدخل زميل له مؤكداً أن «معظم الذين تظاهروا كانوا من أبناء المحافظات الأخرى، وهناك عدد كبير من المتظاهرين لم يكونوا طلاباً في الجامعة أساساً، كانوا يأتون للتظاهر فحسب».
تنجح جهودنا في كلية الهندسة المدنية في الحديث عن التظاهرات. يروي فراس، باختصار، عن مشاركته في إحداها: «نعم، تظاهرنا، وتعرضنا للضرب من قبل بعض الطلاب الشبيحة. وفي المقابل نصب بعض الطلاب المتظاهرين كميناً لطالبين مؤيدين، وضربوهما بشدة. رأيت ذلك بعيني، وكان ذلك سبباً في امتناعي عن مواصلة التظاهر. لا أحد من الطرفين مستعد لتقبل اختلاف الآخر عنه». يؤكد فراس أنه لا يعرف إن كان جميع المشاركين في تلك التظاهرة من طلاب الجامعة، «ربما كانوا من خارجها، وربما كانوا من كليات أخرى». يضيف: «لا جدوى من هذا الكلام. بالنسبة اليّ قررت مواصلة دراستي فقط، هذا هو المهم في الوقت الحالي». كلام يبدو منسجماً مع المزاج العام في معظم الكليات.
بدورها، ترى الدكتورة غالية صباغ، المُدرسة في كلية الصيدلة، أن «معظم الطلاب كرهوا ابتعادهم عن دراستهم، وعادوا إليها. وساهمت حكمة الادارة الجديدة للجامعة في عودة ثقة طلابنا بجامعتهم». وتضيف: «في كثير من الأحيان أصل إلى الكلّية متوقعة ألا أجد أي طالب في المحاضرات الصباحية، وخصوصاً حين تكون المدينة قد عاشت ليلةً من الأحداث الساخنة، لكنني أفاجأ بهم داخل القاعة قبل الثامنة صباحاً». وفي ما يتعلّق بمدرّسي الجامعة، تؤكد صباغ، التي عُيّنت أخيراً وكيلاً إدارياً في الكلية، أنّ العملية التعليمية لم تتأثر على نحو كبير، برغم أن عدداً من المدرسين قد غادروا. تقول: «بصراحة مؤسساتنا الحكومية توظف أعداداً فائضة عن الحاجة، وبالتالي الانخفاض في عدد الأساتذة لم يؤئر. في كلية الصيدلة كان عددنا 36 مدرساً، وكنا نختلف على تدريس المقررات. وفي الأحداث الراهنة غادر البلاد 10 منّا، ومغادرتهم لم تؤثر، فقد أعدنا توزيع المقررات في ما بيننا». وتشير إلى أنّ «هناك قسماً واحداً تأثّر فقط، ولسبب إداري بحت. هناك من خالف القانون وسمح للدكاترة بالسفر في إطار مهمات بعثات علمية، وبنسبة تتجاوز النسبة المسموح بها (يسمح القانون بسفر 20% من مدرسي كل قسم). واحدة ذهبت إلى الولايات المتحدة، وأخرى إلى بريطانيا.
وفي الوقت نفسه انتقل دكتور ثالث الى جامعة تشرين نقلاً كاملاً. ليبقى القسم بلا أي دكتور، لكن، جرت الاستعانة بدكاترة من كلية الطب البشري لسد هذا النقص».
في المقابل، يرى أحد الموظفين الإداريين في رئاسة الجامعة (فضّل عدم ذكر اسمه) أنّ حالات نقل المدرسين الراغبين «لا تُمثل مخالفات للقانون، في ظل الوضع الراهن. هناك وضع استثنائي تجبُ مراعاته».
ويضيف: «يمر موظفو الجامعة، والمدرسون على نحو خاص، بظروف صعبة. هناك مدرّسون تعرضوا لضغوط وصلت في بعض الأحيان إلى حدّ التهديد بالتصفية الجسدية لأنهم «لم ينضمّوا إلى الثورة».
وفي المقابل، هناك مخاوف لدى البعض من التعرض للاعتقال، مع ملاحظة أنّ مدرسين معروفين بتوجههم المعارض ما زالوا على رأس عملهم. سواء في جامعة حلب، أو في غيرها من الجامعات».
نختتم جولتنا مُحاذين المدينة الجامعية، التي شهدت بدورها اضطرابات أمنية خلال العام الأول من الأزمة. قبل أن تتحوّل في صيف 2012 إلى ملاذ لنحو أربعين ألفاً من أبناء الأحياء الساخنة.
أما اليوم، فقد عادت الحياة الطلابية إلى بعض وحداتها السكنية، بينما استمرت وحداتٌ سكنية أخرى في احتضان العائلات التي نزحت إليها. تستعرض الذاكرة شريطاً سريعاً لأحداث كثيرة دارت خلال فترة تقارب ثلاثة أعوام، وتترك وراءها سؤالاً عريضاً: هل تكون عودة الاستقرار إلى الجامعة مقدمةً لعودته إلى حلب، كما كانت اضطراباتها مقدمةً لاضطراب المدينة؟ سؤال ربما بدا مفرطاً في التفاؤل.