القاهرة | «بلادي وإن جارت عليّ عزيزة، وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام». بهذه الكلمات ختم الرئيس المصري الأسبق، محمد مرسي، مداخلته القصيرة أمام هيئة محاكمته في قضية «التخابر مع حماس وقطر»، قبل أن يتعرض لأزمة قلبية ويلفظ أنفاسه الأخيرة في قفص المحاكمة. وصل إلى المستشفى متوفياً عصر أمس، وهناك لم يتمكن الأطباء من إنقاذ حياته. عاين الجثمانَ رئيس مصلحة الطب الشرعي للتأكد من أنه لا «شبهة جنائية» في الوفاة قبل أن يصدر تصريح الدفن (لم يُسلّم الجثمان للعائلة بعد). هذه هي الرواية الرسمية حتى الآن!قبل سبع سنوات من يوم رحيله، كان مرسي يتابع جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية النزيهة الوحيدة التي شهدتها مصر في تاريخها، متنافساً مع الفريق أحمد شفيق، ومعبّراً عن تيار «ثورة 25 يناير» الذي وُلد من تظاهرات ميدان التحرير وأطاح بنظام حسني مبارك بعد ثلاثة عقود. اختار قلب مرسي أن يتوقف أمس خلال محاكمته ليكون شاهداً على الظلم الذي تعرض له أثناء المحاكمة وحرمانه أبسط حقوقه في الحصول على الرعاية الطبية، على غرار سلفه المخلوع حسني مبارك الذي قضى أكثر من نصف حبسه في مستشفيات الجيش يتلقى العلاج، ولا يزال حياً يرزق حتى اليوم.
رحل مرسي تاركاً خلفه إرثاً من الأسرار لم يكشف عنه حتى رحيله، كما لم يتمكن من تسجيله وتوثيقه مع الأخذ في الاعتبار أن رئيس الدائرة التي يُحاكم أمامها كان قد أوقف التسجيل المصور منذ أشهر، في خطوة تزامنت مع تعليمات للصحف بتجاهل أسانيد الدفاع التي يقدمها محامو الرئيس الإسلامي إلى المحكمة، للدفع ببراءته من اتهامات التخابر التي يعتقد أنه جرى تلفيقها له بعد إقصائه من السلطة، ورفضه المشاركة في السلطة الانتقالية برئاسة رئيس المحكمة الدستورية، وقيادة فعلية لوزير دفاعه آنذاك، عبد الفتاح السيسي.
وبوفاته المفاجئة أمس أمام الموجودين، على نحو تقول الدولة إنه لا يدع مجالاً للشك في طريقة الوفاة أمام الرأي العام العالمي، طُويت صفحة مرسي التي لم تعرف الدولة كيفية التعامل معها. فعلى عكس سلفه مبارك، الذي حصل على أحكام بالبراءة، وإدانة في قضية واحدة فقط، كان الرجل ينتظر الإعدام الذي حصل عليه بالفعل في حكم سابق للمحكمة، لكن لم يتم تأييده من محكمة النقض.
تصرّ الدولة على أنه لا «شبهة جنائية» في موت مرسي لكنها تكمل التحقيق


صحيح أن الوفاة كانت مفاجئة في توقيتها، لكن ثمة ظروف مهدت لها خلال السنوات الماضية، بداية من المشكلات الصحية التي واجهت الرجل في السجن، والمعاملة غير اللائقة، مروراً بوقف محاولات علاجه خارج السجن على رغم مناشدة النائب العام أكثر من مرة مراعاة حالته الصحية، وصولاً إلى ظهوره بوجه شاحب وجسد هزيل في أكثر من جلسة، فضلاً عن حرمانه لقاء أسرته على نحو اعتيادي وفق اللوائح والقوانين المنظمة لعملية الحبس.
وزارة الداخلية أعلنت بدورها حالة الاستنفار مع إعلان الوفاة رسمياً في الإعلام. إعلان لم يتأخر سوى دقائق فقط بسبب حدوثه خلال وجود صحافيين ومصورين في المحكمة. لكن إجراءات الدفن طُلب من عائلته أن تتم بسرعة وبسرية، ومن دون أن تكون هناك جنازة شعبية، في ظلّ التخوف من أن تتحول جنازته إلى تظاهرة مناهضة للنظام.
أما الإعلام، فنُقلت إليه توجيهات بذكر خبر الوفاة فقط، مع التركيز على ما وصف بأنه «عنف الإخوان» خلال حكم الجماعة وما تلى عزلها. وشددت التعليمات على أن «الرئيس الأسبق كان جاسوساً ولا يجوز الترحم عليه»، في وقت يزور فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي بيلاروسيا ضمن زيارة مقررة سلفاً، على أن الرئاسة المصرية لم تصدر أي تعليق.
في غضون ذلك، أعلن النائب العام التحفظ على جميع الكاميرات الموجودة في قاعة المحاكمة، واستدعاء الموجودين كافة في قفص الاتهام برفقة مرسي لسؤالهم عن ملابسات وفاته، بالإضافة إلى التحقيق في الواقعة. ثم صدر بيان رسمي بعد أقل من ساعتين على الوفاة، يتضمن تكليفات بالتحقيق وسرعة الانتهاء منها.
مرسي، الذي نزل إلى ميدان التحرير بعد فوزه بالرئاسة، ووقف وسط المتظاهرين لتأكيد ثقته في الشعب، هو نفسه الذي غادر السلطة مجبراً بالقوة من قِبَل السيسي، الذي خرج على الشاشات ليعلن يوم 3 تموز/ يوليو بداية مرحلة انتقالية بإقصاء الرئيس الذي رفض إجباره على انتخابات مبكرة، أو التدخل في شؤون الحكم من قِبَل الجيش.
أما الإدانات الدولية للظروف التي احتُجز فيها، من لدن المنظمات الحقوقية التي سارعت للتعقيب على وفاته، فلم تمنع النظام من تكليف الخارجية إعداد بيان لتوضيح الموقف للدول التي تستفسر عن الملابسات، على أنه قانونياً سوف تُغلق القضايا التي كان متهماً بها بمجرد إثبات وفاته في الجلسة المقبلة لكل قضية.
وعلى ما يمكن أن تشهده الأيام المقبلة من تداعيات داخلياً وخارجياً، يبقى أن مرسي هو أول وربما آخر رئيس مدني منتخب في مصر. فالدولة العسكرية التي حكمت البلد حتى 2011 منذ الإطاحة بالملكية عادت مع عهد السيسي المتمسك بالسلطة حتى الرمق الأخير، لكن هذا لن يلغي السؤال الأقوى: كيف ستكون النهاية؟