لم تعد مماطلة المجلس العسكري في تسليم السلطة لقادة الحراك الشعبي خافية على قوى «الحرية والتغيير». بوضوح، رفَض المجلس المبادرة الإثيوبية أولاً بذريعة أنها قُدمت إليه منفردة ومنفصلة عن مبادرة الاتحاد الأفريقي، من دون أن يبدي موقفاً إيجابياً أو سلبياً من الأخيرة، ثم عاد ورفض أول من أمس المبادرة المشتركة الإثيوبية ـــ الأفريقية إثر مسيرة مليونية طالبته بتسليم السلطة فوراً، ليبدي أخيراً استعداده للتفاوض وفق مبادرة «الاتحاد».مماطلة مكشوفة من شأنها إفشال الوساطات الدولية بهدف إقصاء «الحرية والتغيير» من المرحلة الانتقالية، واستبدال وساطات إقليمية بها، كالتي قدمها جنوب السودان، من شأنها إشراك قوى سياسية وحركات مسلحة وقبائل في العملية السياسية لتشكيل سلطة مدنية تعيد إنتاج النظام البائد، لكن من دون الرئيس المخلوع، عمر البشير، الذي يرى مراقبون أنه كان الهدف الرئيسي للانقلاب في 11 نيسان/ أبريل، نظراً إلى علاقاته الخارجية والداخلية المتناقضة. سلطة يراد لها أن تكون لباساً مدنياً لحكم عسكري، بما يتيح تطبيع العلاقات مع دول الغرب الذي يرفع شعار «التحول الديموقراطي».
إزاء ذلك، قررت «الحرية والتغيير» إنهاء حالة المهادنة التي ظلت سائدة في انتظار استجابة العسكر، من دون أي بادرة حسن نية من المجلس. فدعت، في بيان أمس، إلى «تسليم مقاليد الحكم في البلاد فوراً لسلطة انتقالية مدنية»، كما وضعت حدوداً زمنية وعملية للتفاوض طالبت في إطارها بـ«مجلس سيادي مختلط بسلطات سيادية تشريفية، ومجلس وزراء من الكفاءات الوطنية النزيهة، وبكامل السلطات التنفيذية، ومجلس تشريعي مدني من قوى الثورة السودانية يضطلع بإصدار القوانين والتشريعات الانتقالية». بذلك، يؤكد قادة الحراك رفضهم مقترح «العسكري» الرئاسة الدائمة لـ«المجلس السيادي» بعدما طالبوا بالمناصفة، وأبلغوا الوساطة الإثيوبية ــــ الأفريقية المشتركة إرجاء النقطة الخلافية حول تشكيل مجلس تشريعي لثلاثة أشهر، عقب تنصّل العسكر من اتفاق تحصل بموجب «الحرية والتغيير» على الغالبية بنسبة 67%.
أعلنت «التغيير» رفض رئاسة العسكر لـ«السيادي» مطالبة بالمناصفة


ميدانياً، وفي ظل تزايد حالة القمع التي راح ضحيتها أول من أمس سبعة قتلى على الأقل وعشرات الجرحى، ومحاولة العسكر تحميل قادة الحراك المسؤولية، على رغم عدم استجابة المجلس لمطلب تشكيل لجنة تحقيق مستقلة، قررت «الحرية والتغيير» العودة إلى الشارع، معلنةً جدولاً احتجاجياً جديداً يشمل دعوات إلى تظاهرات مركزية وعصيان مدني شامل في الـ13 والـ14 من هذا الشهر، في خطوة تقابل التصعيد بتصعيد مضاد، ومن شأنها جعل المفاوضات ـــ إن عُقدت ـــ معززة بورقة الشارع، التي أثبتت فعاليتها في الضغط، كما حدث بعد المسيرة المليونية السابقة الشهر الماضي، حين أجبرت المجلس على العودة إلى الطاولة لبحث هياكل السلطة ونسب التمثيل، وفق وثيقة دستورية قدمتها «الحرية والتغيير» تبين رؤية الحراك للمرحلة الانتقالية.
وبالنظر إلى مسار حكم المجلس العسكري منذ الانقلاب على البشير في 11 نيسان/ أبريل، باتت «الحرية والتغيير» تعلم أن المشهد نفسه يتجدد بمحاولات المجلس توسيع مروحة المحادثات لكسر ثنائية المفاوضات معها، ليتراجع بعد ذلك إثر التصعيد في الشارع الذي يؤكد كل مرة تمثيل «الحرية والتغيير» للحراك. هذا بالضبط ما أرادت أن تجلّيه «مليونية 30 يونيو» أول من أمس، وما سيتجلى أيضاً في التظاهرات والعصيان الشامل بعد أسبوعين. فعاليات تستهدف إعادة الكرة إلى ملعب العسكر، ودفعه إلى التوجه من جديد نحو مفاوضات ثنائية، وإنهاء حالة المراوغة، التي يلجأ إليها في كل مرة، ظناً منه أن بإمكانه تيئيس قوى «الحرية والتغيير».
موقف «العسكري» يبدو اليوم أضعف منه في جولات التصعيد الماضية، في ضوء توجيه أصابع الاتهام إليه بالمسؤولية عن موجة العنف الدامي الجديدة في مسيرة الأحد، فضلاً عن مجزرة فض الاعتصام، والضغوط الأميركية والأوروبية في اتجاه منع تصاعد حدة الصراع خشية وقوع فوضى تدفع فيها تلك الدول ثمناً باهظاً، خصوصاً أن البلاد باتت مفتوحة أمام احتمالات كثيرة، أبسطها انقلاب عسكري، وأصعبها حرب أهلية يبدو وقودها حاضراً بالنظر إلى انتشار السلاح والميليشيات. وفي هذا الإطار، نبه زعيم حزب «الأمة القومي»، الصادق المهدي، أمس، إلى أن «على كل قوانا السياسية أن تركز على ضرورة تحاشي هذه الحرب الأهلية وكل أشكال الصراع التي يُحتمل أن تحدث».