حمص | تدخل السيارة شارع العراب القريب من حي الدبلان وبقية الأحياء المتوترة في مدينة حمص. الشارع المسقوف بالخشب يشي بأيام دفء عاشها سابقاً، حين كان يحتضن معارض فنية وفعاليات ثقافية. الوصول إلى حيث يقيم، مؤقتاً، الخارجون من حمص القديمة ليس أمراً سهلاً. حاجز للجيش في انتظارك ليعرف وجهتك وسبب زيارتك. المباني الأنيقة في العراب تغيب عنها آثار الرصاص والقصف، رغم أن أهل الشارع غادروه بعد بدء الاشتباكات الأولى في حي الدبلان، قبل أن يعودوا اليه سريعاً. وهذا ما يجعله على النقيض من الأحياء المجاورة المهجورة والرازحة تحت وطأة الحرب، من الدبلان وصولاً إلى بقية الأحياء القديمة.
تقع مدرسة الأندلس، التي حوّلتها الدولة إلى مركز إيواء للنازحين، مقابل مديرية التربية. تضم نحو 340 مدنياً من الخارجين من حمص القديمة، تمهيداً لإخراج بعض الرجال مع عائلاتهم إلى حيث يريدون، عند انتهاء إجراءات تسوية أوضاعهم، فيما يبقى في المبنى القديم كلّ من لا مأوى له تحت رعاية الدولة. على واجهة المبنى آثار اشتباكات قديمة، وعلى مدخله عدة عناصر من الشرطة يدقّقون في البطاقات الشخصية ويفتشون الداخلين. في باحة المدرسة أولاد يلعبون كرة القدم. رجال دين يغادرون المركز. يزور هؤلاء العائلات باستمرار. يعبّر أحدهم عن ثقته بخروج الباقين قريباً. تهمس إحدى النساء الواقفات: «ما رح يطلعوا أبداً. فخّخوا الأنفاق وردَموها. والطريق مقنوص».
كان أمام الطبيب عبد القادر زبير شهران فقط لينهي اختصاصه في مشفى الوليد في حي الوعر، إلا أن الأمر انتهى به في مشفى ميداني، بعدما خطف من المشفى الذي يعمل فيه. لدى عبد القادر عائلة وأطفال حاول طويلاً العودة إليهم. يقول لـ«الأخبار»: «كنّا بين نارين. خايفين من المسلحين جوّا، وما عم نسترجي نهرب لبرا، لأننا كنا خايفين من تعاطي الأمن والجيش معنا إذا عاملونا كأننا مسلحين». لا يمكن زبير العودة إلى مهنته وإكمال اختصاصه من دون استثناء من وزير الصحة، إلا أنه راضٍ بتسوية وضعه وعودته إلى بيته بسلام.
خالد المصري، طبيب تخدير خُطف من مشفى البر في الوعر أيضاً، للعمل في مشفى ميداني في جورة الشياح. يقول إن الخيار الوحيد المتاح للأطباء في ذلك المكان هو التعايش مع الوضع. الخروج من المستشفى كان ممنوعاً. يمكن، فقط، الوصول إلى الحديقة لجلب الحطب وتكسيره بغرض التدفئة. يروي المصري كيف تمكّن وزميله من الهرب، مستغلَّين دخول المساعدات، من خلال المساعدة في حملها. يقول: «التقينا بممثل الأمم المتحدة، ووضعناه في صورة وضعنا. فما كان منه إلا أن أقلّنا بسيارته فوراً للخروج. خضعنا لتحقيق روتيني، ثم خرجنا».


«براءة» وجيرانها «الثوار»

يتخاطب المسلّحون في ما بينهم بالألقاب والكنى، وفق ما يقوله الخارجون من حمص القديمة. يرددون اسم «أبو الحارث»، ما يوحي بسيطرته على أعداد من المسلحين في الداخل. لدى الطفلة براءة، 8 سنوات، ما تقوله. «هني ما بيعرفو يقوصو لأنن مو خادمين عسكرية. كانوا يجو يسألوه لبابا كيف بيحطّو الرصاص، لأنو بابا خادم عسكرية بيعرف يقوّص بس ما بيحمل سلاح لأنو بيخاف علينا»، تقول الصغيرة، وتضيف: «ونحنا طالعين صارو يتخبو بيناتنا. وحملونا أنا وأختي جنى لحتى يفكرن الجيش عائلات». يعني طلعوا معكن؟ تجيب الصغيرة: «اي طلعوا. كانوا أكتر من العائلات». تجلس الطفلة وحيدة في باحة المدرسة، ريثما تلتحق شقيقاتها بها. اسمها يعكس نقيض حديثها، وتتحدث بدراية امرأة عجوز، من دون أن ينتابها الخجل من رواية ما يمنع الأطفال من الحديث فيه. ومن اللافت أن عائلتها التي عانت من الحصار طوال سنة ونصف، قد خرجت من جورة الشياح ووجوه أفرادها ملوثة بالسواد، إلى درجة العجز عن تبين ملامح الصغيرات اللواتي بدَون خارجات من مدخنة. وهذا ما لفت أنظار الحاضرين للتحدث معهن، إلا أن الطفلات الأربع بقين متمسكات بأطراف ملابس والدهن، الذي لا أقارب له يلجأ إليهم. براءة كانت صامتة، مذهولة طوال الوقت، حتى ظنّها الآخرون خرساء. متطوّعات من «جمعية شباب الخير»، المسؤولة عن المركز، اهتممن بتنظيف الصغيرات وتبديل ملابسهن وتقديم الطعام لهن. مآسي العائلة تجلّت قبل قرار الوالد إخراج براءة وشقيقاتها الثلاث، وأصغرهن لا يتجاوز عمرها 3 سنوات، بعدما خسرت العائلة الأم والطفل الرضيع، إثر انفجار عبوة ناسفة قبل 7 أشهر. حمل الأب مع بناته أشلاء الأم، لدفنها. ومنذ ذلك الحين عرفت الصغيرات أن والدتهن لم تعد والدتهن، بل أضحت قطعاً من اللحم المتناثر والكثير من الدماء على أيديهن الصغيرة. يتحدثن عنها وكأنها شخصٌ تلاشى. لا دموع تتجمع في عيونهن، فقد كان الجوع يشغلهن طيلة الأشهر السبعة. تقول براءة: «كُنا جيران الثوار. كنا نجمع الحطب ونكسرو ونحطو ببرميل ليتدفوا الثوار». «الثوار»، بحسب قول براءة، يخلعون أبواب المنازل ويأتون بها إلى الصغيرات لتكسيرها باستخدام حجارة كبيرة. اعتادت الفتيات حمل الأحجار الثقيلة، وتلبية طلبات هؤلاء الشبان. «قول لبناتك بدنا شاي. قول لبناتك بدنا حطب»، تردّد براءة جمَلهم التي يوجّهونها لوالدها. تحاول تقليد نبرتهم قائلة: «حجّب بنتك. عيب نحنا إسلام. خلّيها تلبس مانطو وتغطي وجهها». وتتابع: «كان بدو يشتري أختي جنى اللي عمرا 3 سنين. قَلّو لبابا: بدفع قد ما بدك حقها. وقلّو أنا باخد بناتك بربيون إذا ما بتقدر إنت تطعميون». وبحسب الصغيرة، حاول الأب إخراج بناته من الحي، فأطلقوا عليه الرصاص وعالجوا جرحه بلا تخدير». شهية الصغيرة تبدو مفتوحة على الحديث، «كانوا يقولولنا إنو الجيش رح يقطعلنا إيدينا ورجلينا ويرش علينا دوا يحرق وجهنا إذا طلعنا لعندو».


«أكلنا القطط... فانتشرت الفئران»

يتكيّف المسلحون، بحسب ما يروي المدنيون الخارجون، مع الوضع بلا كهرباء، عن طريق مولّدات كهربائية تعمل 4 ساعات يومياً، ويستخدمونها لشؤونهم الخاصة. أما المدنيون فقد نسوا الكهرباء نهائياً. يأتون بالمياه من بئر قديمة. يخرج مع المياه تراب وأوساخ، فيقضون وقتهم في تصفيتها قبل الشرب.
تقول فريحة (12 عاماً): «كنا نضطر ناكل عالجوع. بس هني كان عندن بقايا معونات. وكانوا يقدروا يخلعوا الأبواب ويسرقوا المونة ويفتشوا بيوت العالم ويسرقوا الأكل بعدما يحطوا السلاح براس صاحب البيت». تتابع براءة الحديث: «من كتر ما أكلنا لحم قطط امتلأت البيوت بالفيران الكبار». ملامح الطفلة الحيادية الخالية من أي تعبير تثير الدهشة. فتتابع فريحة: «ما كان اللحم طيب. كان طعمو مرّ».
تروي فريحة عن محاولة بعض السكان الهرب، ما جعل المسلحين يعدمون أربعة منهم بقطع رؤوسهم، ليكونوا عبرة للآخرين. شخص آخر، بحسب فريحة، حاول الهرب، ما أدّى إلى تعرّضه للجلد في الشارع.

«سعر العصفور 10 آلاف»

يجلس عمر (15 عاماً) قرب سور مدرسة الأندلس. يشعر الشاب بالسعادة، إذ يحمل السجائر في كلّ جيوب بنطاله. هُنا يمكنه التدخين كما يحلو له. يشرح الوضع في «الداخل» بالقول: «سعر العصفور 10 آلاف مع إنو بيتاكل. بس سعر كيلو الدخان العربي 3 ملايين ليرة». وهل هناك من معه ثلاثة ملايين ليرة؟ يجيب: «كل اللي جوّا معن ملايين. بس مواد للشراء ما في». ويتابع: «سرقوا كل شي. السوق المسقوف ومحلات الصاغة والتياب والمصاري».
شابان آخران يجلسان منعزلَين. أحدهما يدعى محمد (20 عاماً)، حمل السلاح أسبوعاً، بحجة أن من لا يحمل السلاح لا ينال حصصاً من الطعام. يقول بأسى: «قتلوا صديقي بحجة أنو متعامل مع الجيش السوري. لهيك بطّلت أحمل سلاح. صرت اشتغل معهن متل معظم السكان اللي كانوا يستثمروهن بأعمال لوجستية متل حفر الأنفاق وخدمتهن وكتير أشغال شاقة كانوا يجبروا الناس تشتغلها».

يمكنكم متابعة مرح ماشي عبر تويتر | @marah_mashi




بعد السلاح... أساتذة علم نفس واجتماع

يبدو محافظ حمص طلال البرازي راضياً عمّا تحقّق من نتائج التسوية المُنجَزة في حمص القديمة. ينفي ما تردّد عن تسليم مئات المسلحين أنفسهم مع سلاحهم، ويشير إلى أن الكثير من الشباب الذين خرجوا بين النساء والأطفال كانوا مطلوبين للمسلحين. 4 منهم تظاهروا بحمل شخص مُقعد، وفرّوا هاربين إلى حيث يقف جنود الجيش. يقول إن التعامل الجيد مع الخارجين، من قبل الحكومة السورية، شجع الباقين على تسليم أنفسهم والعودة إلى حضن الدولة. ويروي أن ممثل الأمم المتحدة شرح للشبان الخارجين أن المنظمة غير مسؤولة عن مصيرهم، لكونهم شباناً، ويعتبرون خارج شريحة السن المتفق عليها مع الحكومة. وينقل محافظ حمص عن ممثل الأمم المتحدة ردّ الشباب على ذلك بالقول: «شو بدكن ساووا فينا بس طالعونا من هون». كذلك يلفت الى أن مسلحين «تسلّلوا بين النساء والأطفال، ووضعوا أنفسهم تحت تصرف الدولة، غير عابئين بأي عقاب قد ينتظرهم، بعد انهيار معنويات المسلحين في الداخل. وهذا ما تمت مراعاته بإيجابية». وأشار المحافظ الى توفير الرعاية الصحية والغذائية في مركز الإيواء المخصص لهؤلاء. وأوضح: «جهّزنا للمواطنين الخارجين من حمص القديمة دورة للدعم النفسي. 3 محاضرات يومية يلقيها رجال دين وأساتذة في علم النفس والاجتماع، بحيث تتم تهدئة نفوسهم بعدما مرّوا في مرحلة صعبة من حياتهم». وعن أوضاع المسيحيين الباقين في الحميدية وبستان الديوان، قال محافظ حمص لـ«الأخبار» إن عدد المسيحيين الإجمالي في حمص القديمة يبلغ 64، خرج منهم 42 شخصاً على دفعتين. ويشير الى أن الأب فرانسيس يرفض الخروج قبل أن يخرج الجميع. ويُضاف إلى المسيحيين الباقين في الداخل 12 شخصاً مسلماً أيضاً. وأكد البرازي أن أحياء حمص القديمة أضحت شبه خالية من العائلات والأطفال، فيما لجأ إلى مركز الإيواء المخصص للمدنيين 340 شخصاً، بعد خروج 179 شاباً جرت تسوية أوضاعهم.
ويوم أمس، أكّد محافظ حمص، طلال البرازي، أنه تمّ أمس تسوية أوضاع 38 شاباً ممن جرى إجلاؤهم من أحياء المدينة القديمة أخيراً ليعودوا الى حياتهم الطبيعية.