من جديد تكرّر المشهد: تفجير انتحاري تليه محاولة لاقتحام سجن حلب المركزي. والنتيجة فشل ذريع، وعشرات القتلى في صفوف المهاجمين. بينما بقي السجن صامداً برغم شهور الحصار الطويلة. ليس ذلك فحسب؛ بل إن أسواره تحولت إلى مقبرة لأبطال الاقتحامات الفاشلة. فما هي مقومات هذا الصمود؟
يرتبط صمود السجن بسببين أساسيين، يصب كلاهما في خانة «حصانة السجن». أولهما استماتة المدافعين، وإصرارهم على الصمود حتى الرمق الأخير. ويؤكد مصدر ميداني لـ «الأخبار» أن «المدافعين طلبوا من قياداتهم إذا سقط السجن، أن يُقصف بالكامل، متعاهدين على أن حياتهم مرتبطة بمصير السجن. ويتعلق السبب الثاني بطبيعة بناء السجن، وتحصينه.

استراتيجيات المدافعين

يعود بناء السجن إلى زمن الوحدة بين سوريا ومصر، حين قرر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بناء سجن جديد في حلب. تولى مهندسون من المعسكر الشرقي (معظمهم سوفيات) مهمة الإشراف على البناء الذي اختير موقعه وسط أرض منبسطة ومكشوفة تماماً. وصُمّم البناء على شكل باحة داخلية مركزية، تحيط بها أجنحة بشكل أشعة شمس تتقاطع في المحور، بحيث تحمي الأجنحة الباحة الداخلية، ويحمي كلّ جناح بميلانه الجناح المجاور له. المادة الأساس في بناء السور الخارجي (حتى الجدران الداخلية والخارجية) من الاسمنت المسلح، ذي الرمل النهري الشديد الصلابة. أما الطابق الأرضي للسجن، فلا فتحة له على الخارج، ولا يمكن الدخول عبره إلى السجن. بل يجب على الداخل الصعود عبر درج إلى الطابق الأول، وهو المنفذ الوحيد، ثم النزول منه إلى الطابق الأرضي. ويمكن لعدد من الرماة رصد مقدمة الدرج الصاعد بسهولة.
ولأن السور الخارجي مبني من الاسمنت المسلح ومرتفعٌ جدا، فإنه لا يمكن اقتحامه بالطريقة نفسها التي هوجم بها مطار منغ ومدرسة المشاة سابقاً (الوصول إلى السور من الخارج وإحداث فتحات صغيرة فيه واستعمالها للقنص نحو داخل السجن). وإذا استطاع المهاجمون تسلق السور، ففي امكان قناص واحد من داخل السجن اصطيادهم بسهولة. أما إذا وصلت شاحنة مفخخة إلى جدار الطابق الارضي، فالتفجير الذي تسببه سيكون محدود التأثير بسبب الاسمنت المسلح. وحتى في حال إحداث فتحة ودخول المهاجمين إلى الطابق الأرضي فقدرتهم على تجاوز الأرضي تكاد تكون مستحيلة. للأسباب المذكورة أعلاه.
قبل الأزمة مباشرة بُدئ العمل على بناء هيكلي اسمنتي ضخم كتوسعة للسجن من الجهة المواجهة للأجنحة الجنوبية، وبقي البناء على الهيكل. وتحول اليوم حاجزاً إضافياً لحماية الجهة الجنوبية من السجن من القصف البعيد (استطاع المهاجمون في إحدى المرات دخوله، لكن جرى صدهم). ويمثل الطابق الارضي منه قلعة حصينة، وقد رُبط بالبناء الرئيسي بواسطة خنادق تحمي العابرين بين المبنيين. الباحة الداخلية للسجن تؤمن حماية كبيرة لمن يرغب في التقاط المؤن والذخائر التي ترمي بها الطائرات (الأمر الذي لم يكن متاحاً في مطار منغ ومدرسة المشاة ومشفى الكندي). وفي حوزة حامية السجن عدد كبير من المدافع الرشاشة عيار 23، مع ذخائر وافرة. وهي رشاشات ثقيلة تؤثر في الدروع بفعالية. ويبلغ مداها المدمر كيلومترات عدة. أما الشوارع المحيطة بالسجن، والمؤدية إليه، فمغلقة تماما بسواتر ترابية. ما يجبر أي سيارة تحاول التقدم نحوه على السير ببطء، ما يجعل استهدافها بقذائف الآر بي جي أمراً سهلاً.

وللمهاجمين «استراتيجياتهم» العشوائية


منذ بدء الحصار، احتلت المجموعات المسلحة مبنى «الزراعة». وهو مبنى مرتفع نسبيا ويبعد مسافة أقل من كيلو متر واحد عن السجن. نصبوا فيه عدداًُ من الرشاشات من عيار 23. وكانت خطة الهجوم الدائمة أن تفتح هذه الرشاشات نيرانها بغزارة في اتجاه السجن، بينما يتقدم بلدوزر أو سيارة شاحنة ضخمة تستطيع السير على أكوام الأتربة والحجارة، محاولة الوصول إلى السور أو البوابة الرئيسية، بغطاء ناري من الرشاشات يمنع قاذفي الآربي جي من داخل السجن من إصابة السيارة المفخخة. وليقوم سائقها بتفجيرها بمجرد وصوله السور. وليتدفق المسلحون بعدها لاقتحام أجنحة السجن. وهذه «الاستراتيجية» محكوم عليها بالفشل، حتى لو نجحت أولى خطواتها. فالأجنحة منفصلة عن بعضها بعضاً، وتمثل بأبوابها الحديدية وجدرانها الاسمنتية حصوناً داخل حصن.




السجناء «الإسلاميون» ضحايا محاولات «تحريرهم»

يمثل «تحرير السجناء الإسلاميين» هدفاً أساسياً للمهاجمين المنتمين إلى «جبهة النصرة»، و«الجبهة الإسلامية». حيث يضم السجن 48 من الإسلاميين المنتمين إلى تنظيم «القاعدة» وجماعة «جند الشام»، الذين نُقلوا مع بدايات الأزمة السورية من سجن صيدنايا العسكري. لكنّ تحقيق هذا الهدف يبدو شبه مستحيل.
ليس بسبب صعوبة اقتحام السجن فحسب، بل أيضاً لأن هؤلاء سيصبحون هدفاً مشروعاً لحامية السجن بفرض نجاح اقتحامه. وخلال اليومين الماضيين، تداولت بعض المواقع المعارضة «صرخة استغاثة» قيل إنها مسربة من الجناح الذي يُحتجز فيه «الإسلاميون».
وقد وجهها هؤلاء إلى «هيئة كبار العلماء في السعودية، ورابطة العلماء المسلمين في العالم، والفصائل المقاتلة في سوريا». وتقول الرسالة إنه «منذ الإعلان عن معركة «فك الأسرى» في الشهر الرابع من العام الماضي، ودافعو الضريبة هم السجناء. فمنهم من قضى نحبه خلال محاولات الاقتحام. ومنهم من مات جوعًا ومرضًا نتيجة تردي الأوضاع الإنسانية والصحية بعد الحصار الذي فرضته كتائب الثوار المُحاصِرة للسجن. ومنهم من نفد صبره وطاقته على تحمّل الجوع، فثاروا داخل السجن. لتقتلهم قوات الشرطة وجيش النظام بالرصاص». وأضافت الرسالة أن «الوضع الحالي في السجن لا يُحتمَل، بعد قيام جيش النظام بصبّ جام غضبه على الجناح السياسي»، و«تحول السجن إلى حقل تجارب لاقتحامات المقاتلين وردود أفعال جيش النظام». ودعت الرسالة إلى «اتخاذ موقف جادّ وحاسم لوقف المجزرة، وتوجيه صرخة إنسانية إلى الفصائل المُحاصِرة لوقف إطلاق النار، وتحييد السجن عن العمل العسكريّ» الذي لم يؤدّ إلى نتيجة.