عندما لبس اللثام في انتفاضة فلسطين الأولى عام 1987، لم يكن عمره يتجاوز العشر سنوات. دخلت إلى قاموسه مصطلحات يصعب على أي طفل استيعابها، كالانتماء الجماعي، الهم الوطني، فكرة الدولة، مقاومة الاحتلال.. لكن، بالنسبة إليه، كانت تلك المفاهيم كفيلة بتحريك الحس الوطني لديه، فخرج إلى الشارع، رسم على الجدران، رشق الجيش الإسرائيلي بالحجر، وزع المناشير، وخبأ البيانات الحزبية في كرّاس المدرسة. وظل وعيه السياسي والوطني يكبر مع استمرار الانتفاضة، فانخرط أكثر في العمل الحزبي، لتنتهي تجربته سريعاً مع اتفاقية أوسلو، اتفاقية أتت لتشوّه كل مفاهيم النضال والمقاومة. غاب الملثم الطفل عشرين عاماً، ليعود رساماً يُشخص حالة «الملثمين عامة، في اثنتي عشرة لوحة بمعرض فني تحت عنوان «ما كان يُعرف» عام 2012، ليستحضر الملثم فنياً، وينتقد غيابه سياسياً ووطنياً.
يقول منذر جوابرة، إن الفكرة راودته مع بداية مشواره الفني عام 2001، بحيث أن غياب ملثم الانتفاضة الأولى (المناضل، المقاوم، الفدائي) بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، وعودته المتقطعة بأشكال ومفاهيم مُختلفة (إرهابي، لص، مُخرب) خلال العشرين سنة الماضية، أثارت لديه العديد من التساؤلات، التي كان محورها الأساسي غياب الملثم، والانفصال التاريخي المهول ما بين الانتفاضة الأولى وأوسلو، وبين أوسلو والانتفاضة الثانية، ثم ظهور الملثم مشوهاً بفعل الإعلام في صور لا تمت إلى الملثمين الحقيقيين بأي صلة. ويضيف «إن المشروع بدأ كعمل فني في الشارع، تحديداً في رام الله عام 2009. تلثمت بالكوفية البيضاء، ولبست الكوفية الحمراء، نزلت إلى الشارع كي أوزع الحجارة على الناس، وأسألهم عن رأيهم، وهنا كانت بالنسبة إليّ الصدمة، لأنني كنت أتوقع أن يكون الناس قد كوّنوا ذاكرة كذاكرتي عن الملثم وقدسيته وأهميته. لكنني سمعت أجوبة غير التي كنت أتوقعها، مقتصرة على ثلاثة انواع: «بعرفش!»، أو «بدي أحتفظ فيه» والجيل القديم ممن قابلتهم قالوا «بدنا نرميه ع الجيش».. ومن هنا اكتشفت أن هنالك شيئا ضائعا، وأن الجيل الذي تربى على اتفاقية أوسلو فاقد الذاكرة، كأن ذاكرته ممسوحة وليس لها أي ارتباط بملثم انتفاضة 1987. مع العلم ان هناك جيلا كاملا عاصر الانتفاضة، ومن هنا يُلاحظ فعلاً أن هناك فصلا حادا بالوعي بين جيلين: جيل الانتفاضة الأولى وجيل أوسلو. وهذا ما خلق إشكالية على المكان سياسياً ووطنياً وفكرياً». في عام 2012، بعد ثلاث سنوات، وخلال مشاركته في أحد الأنشطة الفنية في برلين،، شعر جوابرة بتقارب تاريخي ما بين فلسطين في زمن الانتفاضة وألمانيا في عهد سقوط جدار برلين، فقرر استكمال مشروعه ليلمس تفاعل الغرب مع القضية الفلسطينية من خلال إيجاد مقاربة تاريخية.
هناك، لاحظ الفنان تكراراً في الأجوبة، بالرغم من المسافة بين رام الله وبرلين! إلا أن ردود الفعل لم تختلف كثيراً، من أناس رفضوا الحديث مع الملثم، إلى أناس استفزهم وجوده، إلى قلّة من الناس رأوه كمقاوم. من برلين، انتقل المشروع إلى مدينة كولون، إلى المكان الذي استطاع جوابرة فعلاً أن يربط مشروعه بفكرة تلمس الجمهور الألماني، فاستخدم أحجاراً من مخلفات الحرب العالمية الثانية، وربط الحوارات التي جرت بينه وبين الناس بالقضية الفلسطينية، مما جعل الناس يستوعبون أكثر مشروع «المقاومة» الذي رمز إليه جوابرة من خلال الملثم.
بعد العودة إلى فلسطين، تبلورت فكرة المشروع: عمل فني يطاول الجمهور على مستويين، الأول فلسطيني لانتقاد غياب الملثم ومواجهة كل فلسطيني بالحقيقة، وبحالة الإحباط الجماعي التي نعانيها، وثانياً عالمي لتسليط الضوء على الجانب الإنساني للملثم، الذي بعكس الصورة النمطية السيئة التي رسمها الإعلام لهذه الشخصية.
ويقول «عندما بدأت بالمشروع كرسم، راقبت نفسي في حياتي اليومية، فالمشروع شخصي، لكن الحالة التي أمر بها قابلة للتعميم. أنا أدخن، أقرأ، أنام، لدي عائلة.. ودخلت بالرمز السياسي (لوحة الملثم مرتدياً البدلة للإشارة إلى السلطة)، محاولاً توظيف الفانتازيا للسخرية من الحالة التي نمر بها الآن. أردت من خلال هذا العمل أن أبرز هشاشة الملثم الذي لا فعل له اليوم ولا وجود، ووضعه في سياق عام من خلال حالات يومية يعيشها كإنسان». استطاع الجيل الذي عاصر انتفاضة 1987 أن يتفاعل مع لوحات معرض «ما كان يُعرف» عند عرضها للمرة الأولى في رام الله، واستطاع المعرض أن يستحضر ذاكرة هؤلاء. أما في بيروت، حيث يتوقف التاريخ عند حدود المخيم، وخروج آخر المقاتلين الفلسطينيين من الساحة اللبنانية، استطاع معرض الفنان (دار المصور في بيروت بين 15 و21 شباط ) أن يلمس ذكرى الانتفاضة لدى اللبنانيين والفلسطينيين على حد سواء، فتكاتف المقاومة اللبنانية مع الفلسطينية استطاع أن يلد أجيالاً لديها الفكر والذاكرة والوعي الكافي عن القضية إلى يومنا هذا، أكثر بما لا يقاس من جيل أوسلو الفلسطيني بحسب جوابرة. وقد يستطيع المعرض خلال زيارته مخيم صبرا يومي 23 و24 شباط في مركز اللجنة الشعبية، أن يرمز إلى ملثم آخر يشبه المقاتلين الفلسطينيين أيام اجتياح بيروت عام 1982، أو خلال الحصار والحروب على المخيمات خلال الحرب اللبنانية على طول امتدادها، وقد يستطيع أيضاً أن يستحضر ذاكرة العديدين ممن بقوا في المخيم، حفاظاً على حقهم في العودة إلى فلسطين.
وقد تكون بيروت ختام المشروع الذي بدأ عام 2009، وقد تتحول زيارتها إلى فكرة عن ملثمين آخرين كانوا قد وجدوا في مكان وزمان مختلف، وغابوا أيضاً.. لكن هنا، بين أزقة عين الحلوة، أو خلف عربات الخضار في سوق صبرا، أو دكانة صغيرة في شاتيلا، أو خلف أسوار مكاتب الجمعيات في تجمعات القاسمية وجل البحر، أو صورة تحت ركام نهر البارد.. وقد يستطيع جوابرة بعد عودته من لبنان إلى فلسطين أن يسأل هذه المرة عن أسباب رحيل الفدائيين بعد انهيار المشروع الوطني الفلسطيني، وقرار خروج المقاتلين من بيروت وإبعادهم أكثر ما يكون جغرافياً وسياسياً عن حدود فلسطين، والبحث عمن بقي من الملثمين في زواريب مخيمات اللجوء في لبنان.
*معرض «ما كان يُعرف» للفنان الفلسطيني منذر جوابرة حاليا في قاعة اللجنة الشعبية في تجمع الداعوق - مخيم صبرا حتى 24 شباط الثامنة مساءً.




منذر جوابرة، رسام فلسطيني من مواليد مخيم العروب عام 1976 ويعيش الآن في مدينة بيت لحم في الضفة الغربية. درس الفن التشكيلي في جامعة النجاح الوطنية في نابلس، وتخرج عام 2001 حائزاً شهادة في الرسم الزيتي. عاصر أحداث سياسية مهمة كاجتياح بيروت عام 1982 والانتفاضة الفلسطينية عام 1987 واتفاقية أوسلو عام 1993، مما أدى دوراً كبيراً في تكوين مشواره الفني بالتعبير عن قضايا شخصية مرتبطة بالمكان والذاكرة والاغتراب. قدم خلال مسيرته الفنية التي بدأت عام 2001 أكثر من 50 عرضا محليا، 30 عرضا دوليا، و15 ورشة دولية ومحلية.