تتحوّل قضية النزاهة إلى نكتة سمجة عندما توضع في سياق وقف التمويل من ثلاث دول أوروبية لـ«الأونروا»، بدعوى وجود فساد في الأخيرة. فالفساد ليس موضوعاً جديداً في أدبيات الأمم المتحدة، إذ سبق أن كُشف عن فضائح كبيرة، لكنها مرت من دون محاسبة أو فعل، بل إن بعضها أماطت اللثام عنه أطراف فلسطينية. أما أن يتحول تقرير «لجنة الأخلاقيات»، بغضّ النظر عن صحته، إلى سبب وجيه كما ترى دول وازنة مثل بلجيكا وهولندا وسويسرا لوقف تمويل الوكالة الدولية في هذا التوقيت بالذات، فهو رد فعل يفوق بكثير ما يتحمّله الموضوع، ويُظهر بلا أدنى مواربة لحاق القارة العجوز بالسيد الأميركي. مشهدٌ يُنهي ما حُكي كثيراً عن قصة النزاهة الأوروبية وقدرة بروكسل على فرملة واشنطن، ولا سيما من طرف السلطة الفلسطينية التي لم تستطع حتى تحصيل «اعتذار» من بريطانيا (قبل خروجها من الاتحاد) على نكبة فلسطين. وإذا ما شاركت دول أخرى في وقف التمويل، فإن الحلم الإسرائيلي بإنهاء «الأونروا» يكاد يكون قريباً.أخيراً، وجدت بعض الدول الأوروبية الذريعة التي ستمكّنها من الالتحاق بسيّدها الأميركي، وبحليفها الإسرائيلي، على مستوى مخطط تصفية «الأونروا»، الجاري تنفيذه في السنوات الأخيرة. لم يتوقف الطرف الإسرائيلي عن استهداف الوكالة الدولية منذ نشأتها نتيجة لدورها الخدماتي بين اللاجئين الفلسطينيين، ولارتباطها التاريخي والرمزي بقرارات الأمم المتحدة الخاصة بحق عودتهم إلى أرضهم. تدمير «الأونروا» في نظر الطرف الإسرائيلي، ونظر فريق دونالد ترامب الذي يقف على يمين بنيامين نتنياهو أيديولوجياً وعقائدياً، شرط لا بد منه من أجل تسريع عملية تشتيت اللاجئين وتهجيرهم نحو بقاع العالم المختلفة والقضاء على حقهم بالعودة. إذ لا مكان للفلسطيني في فلسطين، ولا في جوارها، بالنسبة إلى أصحاب المشروع الصهيوني الاستيطاني والإحلالي.
لاستكمال عملية الاستيطان والإحلال، لا يكفي اقتلاع الفلسطيني من أرضه، بل المطلوب اقتلاعه من الجوار عندما يكون ذلك ممكناً. هذا ما حاولت إسرائيل وحلفاؤها فعله خلال غزوها لبنان عام 1982 وتدميرها غالبية المخيمات وارتكابها المجازر بحق أهاليها. وما أظهره عدد من الوثائق يثبت أن هذه المجازر، وأبرزها صبرا وشاتيلا، اندرجت ضمن استراتيجية الاقتلاع. الاستراتيجية نفسها مستمرة حتى اليوم، ولكن على نار هادئة، وهدفها الحالي قتل «الأونروا». الأميركيون، ومن يتبعهم من الأوروبيين، شركاء في الجريمة، والحجة التي يطرحونها لتبرير وقف تمويلهم للوكالة ــــ تهمة «الفساد» ــــ إهانة لذكاء الفلسطينيين والعرب وبقية شعوب العالم.
بعد سويسرا وهولندا، أعلنت بلجيكا تعليقها تمويل «الأونروا» بعدما كشف تقرير لمكتب الأخلاقيات التابع للأمم المتحدة عن «سوء إدارة واستغلال سلطة من مسؤولين على أعلى مستوى في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين». التقرير ذكر «انتهاكات خطيرة للأخلاقيات» يطاول بعضها المفوض العام للوكالة، بيير كرانبول، وتضمّن اتهامات لبعض كبار مسؤوليها بالتورط في «سلوك جنسي غير لائق ومحاباة وتمييز وغيرها من ممارسات استغلال السلطة لمنافع شخصية وقمع المخالفين بالرأي تحقيقاً لأهداف شخصية». بلجيكا كانت قد دفعت مساهمتها السنوية في تمويل «الأونروا»، وقدرها 6.25 ملايين يورو، لكنها ستمتنع عن دفع مساهمة إضافية كانت مقررة وقيمتها 5.35 ملايين يورو. الأمر نفسه ينطبق على سويسرا التي دفعت 22.3 مليون فرنك سويسري، لكنها ستعلق أي مساهمات أخرى. أما هولندا، فأعلنت تعليقها مساهمتها السنوية وقدرها 14.5 مليون دولار.
وقف التمويل بحجة الفساد يبعث على السخرية لولا أنه مرتبط بتهجير الفلسطينيين


قد تكون جميع الاتهامات الواردة في تقرير «لجنة الأخلاقيات» صحيحة. المشكلة/ المهزلة لا تكمن في الصحة أو العكس. السؤال الذي يفرض نفسه فرضاً هو: منذ متى يتوقف تمويل وكالة تابعة للأمم المتحدة بسبب فساد مسؤول أو مسؤولين فيها؟ نحن أمام سابقة في معقل للفساد هو الأمم المتحدة نفسها، تُعتمد فيه سياسة التعتيم على الفساد وعدم المحاسبة عندما ينكشف لسبب أو آخر. هذا ما أوضحته الكاتبة والصحافية الكينية، رسنا وراح، التي رأست تحرير تقارير صادرة عن الأمم المتحدة بين 1994 و2009، في كتاب بعنوان «كسر الصمت: فضح ثقافة الأمم المتحدة للتعتيم على الفساد وغياب المحاسب». بدأت وراح اكتشاف وجود الفساد داخل المؤسسات التابعة للأمم المتحدة، للمرة الأولى، عام 2009، عندما زارت مع المديرة التنفيذية لـ«برنامج الأمم المتحدة للحق بالسكن» (UN-Habitat)، آنا تيبايجوكا، البحرين، للترويج لمشروع المدن «المستدامة» التي يسعى البرنامج المذكور إلى المساعدة على تشييدها. خلال الزيارة، سأل المسؤولون البحرينيون عن كيفية استخدام هبة بقيمة مليون دولار كانوا قد قدموها إلى البرنامج، ما أربك المديرة التنفيذية. بعد عودتها إلى كينيا، اكتشفت وراح أن ما لا يقل عن 350000 دولار اختفت تماماً. وعندما سألت المسؤولين عن الموضوع، غضبوا منها وهددوها بمقاطعتها تماماً. هي علمت بعد ذلك أن اسم رئيس وزراء البحرين وضع على لائحة شرف البرنامج تقديراً «للجهود التي بذلها لرفع مستوى معيشة البحرينيين». فهمت وراح أن القيّمين على البرنامج اشتروا بهذه الطريقة صمت البحرين عن سرقة المبلغ المذكور.
أيضاً، سعت الكاتبة الكينية لمعرفة المنهجية المعتمدة من أجل عمل الإحصاءات والتقارير عن حال المدن في العالم، وسرعان ما توصلت إلى استنتاج أن هناك مبالغات مقصودة في حجم بعض المشكلات، ونشراً لإحصاءات لا تستند إلى أي بحث علمي وميداني. هي خلصت إلى أن هناك «صناعة للمعطيات»، أي تزويراً متعمّداً، من أجل الحصول على التمويل والمساعدات والهبات من مؤسسات ووكالات تابعة للأمم المتحدة. وقد وجّهت اتهامات إلى معدّي عدد من التقارير باختراع «مجاعات» في الصومال، من دون أي أساس، لاجتذاب التمويل، ولتوجيه السياسات، والدفع لإنشاء برامج مساعدة تستفيد منها أولاً البيروقراطية الفاسدة داخل الوكالات والمؤسسات.
وعلى رغم أن عدداً من الموظفين في الوكالات والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة قاموا بمحاولات لفضح حالات الفساد، فإن بياتريس إدواردز، وهي مديرة «مشروع مساءلة الحكومات»، قالت إن الحصانة التي تتمتع بها المنظمة الدولية، وكذلك مسؤولوها، دفعتها إلى التعمية على عدد من الفضائح، وإن نظامها القضائي الداخلي «مغلق واعتباطي». وذكّرت وراح بما قام به أندرز كومباس، وهو المدير السويدي للعمليات الميدانية لمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذي كشف قيام جنود من «قوات حفظ السلام في إفريقيا»، التابعة للأمم المتحدة، باغتصاب أطفال في إفريقيا الوسطى، وقد استقال احتجاجاً على عدم معاقبة هؤلاء في حزيران/ يونيو 2016.
وقف تمويل «الأونروا» بحجة وجود فساد داخلها، وهي وكالة من وكالات مؤسسة دولية لم يعد سراً أن الفساد مستشرٍ فيها، أمرٌ كان سيبعث على السخرية لولا أن تبعاته مرتبطة بمخطط تهجير الفلسطينيين واقتلاعهم. والدول التي قررت إيقاف تمويلها ينبغي أن تعلم أنها ستعامَل باعتبارها شريكة في الحرب التي تُشنّ على هذا الشعب وشعوب المنطقة من الصهيونية.