وجّهت السعودية رسالة تحذير شديدة، وإن غير مباشرة، إلى الجانب الإماراتي، من خلال تبنّيها الكامل لفريق «الشرعية» في اليمن (أي حكومة الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي) ووقوفها الحاسم معه، معلنة أن أي اعتداء على رموز هذه «الشرعية» لن يُسكَت عنه، وأن الأخيرة تحظى بالدعم والغطاء السياسي والعسكري من الرياض، مشددة على أن شكل الحكم في اليمن، سواء الانفصال أو الوحدة، يُقرَّر بالأدوات «الشرعية» والرسمية (جدير بالذكر أن السلطات الدستورية الثلاث في اليمن محسوبة على السعودية). أرادت الرياض، إذاً، القول، للأصدقاء قبل الأعداء، إن تقرير مصير اليمن لن يكون إلا بعد الانتهاء من الحرب، وإن أي قرار في شأن مصير البلد، سواء شكل الحكم أو وحدة الأراضي اليمنية، لن تقرّره مجموعات أو فصائل من خارج «الشرعية»، وإن أي عمل عسكري خارج مظلة الرئيس «الشرعي» يعدّ «تمرّداً». تصدّرت الاشتباكات الدائرة في عدن، منذ عصر الأربعاء الماضي، المشهد اليمني والإقليمي. المعلومات المتوافرة تشير إلى أن شرارة المعركة كانت متعمّدة ومفتعلة من جانب «المجلس الانتقالي الجنوبي» المدعوم إماراتياً، بزعم التعاون الاستخباري بين حزب «الإصلاح» (إخوان مسلمون) وحركة «أنصار الله»، وهو ادعاء لم يستطع «الانتقالي» إثباته. أما الجانب الخفي من الصراع الدامي في عدن، فهو أن دولة الإمارات باتت مستعجلة في حسم أمر استمرار مشاركتها في الحرب. تعتبر أبو ظبي أن التحالف حقّق مجموعة من أهدافه الاستراتيجية، على رأسها صدّ محاولات تغيير التوازنات الاستراتيجية في المنطقة، ويبقى أمامه مشروع الاستقرار السياسي واستدامته، وفق تعبير أنور قرقاش، وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، في حين يرى الجانب السعودي أن الحرب لم تحقّق أهدافها، وأن الانسحاب منها يمثّل خطورة على المملكة في الوقت الراهن.
مطّلعون يرون أن أبو ظبي تبالغ في الادعاء بأنها حقّقت مجموعة من الأهداف الاستراتيجية، والحقيقة أن مكاسبها في الإطار السياسي والتكتيكي، مقابل عدم استقرار ووضع ضاغط وغير مريح على المستوى الاستراتيجي. وحتى تتحقّق الأهداف الاستراتيجية، فإن أبو ظبي بحاجة إلى تسييل سياسي للأهداف المذكورة، وتثبيت الوقائع من خلال الفصائل المحلّية المقاتلة العاملة تحت إمرتها، بالإضافة إلى توافقات سياسية مع شركائها في «التحالف»، وعلى رأسهم الرياض. أبو ظبي تدرك أن مسار خروجها من الحرب ليس بالأمر الهيّن، وأن أمامها الكثير من العقبات والتحديات، وأي خطأ في الحسابات سيؤدي إلى خسارة محتّمة، وهذا ما أكده قرقاش نفسه بالقول إن بلاده فهمت التحدّيات في ذلك الوقت (بداية الحرب)، وفهمتها في الوقت الحالي، «فالنصر ليس سهلاً والسلام لن يكون سهلاً».
الجانب السعودي، وإن لم يعلّق على الخطوات الأحادية الإماراتية (الانسحاب الجزئي)، إلا أنه لا ينظر بعين الرضى إليها، وسيعمد إلى وضع العراقيل أمامها. وجدير بالذكر أن الرياض أعدّت العدّة بعد أحداث عدن بداية عام 2018 بين «الانتقالي» و«الشرعية»، والتي أدّت إلى حسم سريع لمصلحة «الانتقالي»، فعمدت إلى تنفيذ خطّة شاملة على الصعد السياسية والعسكرية والإنمائية كافّة في المحافظات الجنوبية، بعدما أوكلت في السابق مهمّة إدارة الجنوب للشريك الثاني في «التحالف»: الإمارات. ولعلّ مسارعة الأخيرة إلى إنشاء كيانات سياسية وعسكرية محلّية استفزت الجانب السعودي، وحفّزته على السير سريعاً في خطّته. فعلى الصعيد الإنمائي، أنشأت الرياض، منتصف العام الماضي، «البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن»، والمخصّص لمشاريع البنى التحتية. وُظّف البرنامج المذكور للاستثمار السياسي واستمالة القبائل وتطويع العديد من الشخصيات السياسية والاجتماعية والقبلية. وكما أن البرنامج منصة لتواصل الرياض مع أبناء جنوب اليمن، فهو كذلك أداة تنافسية مع «الهلال الأحمر الإماراتي» الذي ينفّذ المهمات نفسها، وحيثما يوجد «الهلال الأحمر» يوجد البرنامج السعودي إلى جانبه.
في الجانب العسكري، منعت السعودية أي تموضع للقوات الإماراتية في محافظة المهرة، فضلاً عن منعها أبو ظبي من إنشاء فصيل عسكري هناك. كذلك، منعت تمدّدها في محافظتي شبوة وحضرموت، وشاركتها في احتلال جزيرة سقطرى، في وقت قامت فيه بإعادة ترتيب القوى العسكرية التابعة لـ«الشرعية»، ولا سيما ألوية «الحماية الرئاسية»، وأشرفت على تدريبها وتزويدها بالسلاح والذخيرة ونشرها في محافظة عدن. وبمجرد أن أعلنت الإمارات الانسحاب الجزئي من اليمن، باشرت المملكة في إرسال أرتال عسكرية سعودية للتموضع في محافظة عدن تحسّباً لأي طارئ.
وعليه، فإن الجانب الإماراتي، انسجاماً مع خطته الجديدة القاضية بالانتقال من الخيار العسكري إلى السياسة أولاً، وخصوصاً بعد التطورات الإقليمية التي أملت عليه ترتيب أوراقه بما يتناسب مع تحدّيات بالغة الخطورة لأمنه وازدهاره وقوة اقتصاده، ولاستكمال انسحابه بالاتكال على وجود قوى صديقة تابعة له، فإنه ملزم بالعبور من البوابة اليمنية الداخلية (المحلية). ومن هنا، فإن المعارك في عدن هذه الأيام ليست سوى فصل من فصول طويلة ومتعدّدة سيشهدها جنوب اليمن.
في حال أخفق «المجلس الانتقالي» في تحقيق حسم واضح في الساعات والأيام المقبلة (وهو حسم يبدو مستبعداً)، فإن المملكة تكون قد نجحت في إغلاق الباب على خطّة الإمارات القاضية بالانسحاب التدريجي من اليمن، ولا سيما الجنوب، وتكون الرياض قد أبطلت عملياً استراتيجية الخروج الإماراتية، بعدما أعلنت أبو ظبي التهيئة والاستعداد لتولي أدواتها (90 ألف مقاتل) مسؤولية الأمن الداخلي في المحافظات الجنوبية، وخصوصاً الغربية منها: عدن، لحج، الضالع وأبين.