تختلف الانتخابات الرئاسية المقبلة في تونس عن سابقتها، وذلك لناحية وجود عدد كبير من المرشحين لهم شعبية وفرص فوز متقاربة. عام 2014، لم يستطع أحد من المرشحين الحصول على أكثر من نصف أصوات الناخبين في الجولة الأولى، وتنافس في الجولة الثانية كلّ من منصف المرزوقي والباجي قائد السبسي الذي فاز في النهاية بهامش صغير. اليوم، تضمّ قائمة المترشحين وجوهاً أكثر ثقلاً، ما يعني تنافساً أكثر حدّة. ومن أبرز المتقدمين للانتخابات رئيس الحكومة الحالي ورئيس حزب «تحيا تونس» يوسف الشاهد، ورئيس البرلمان المدعوم من «حركة النهضة» عبد الفتاح مورو، ورئيس الحكومة الأسبق وزعيم حزب «البديل» مهدي جمعة، ومرشح حزب «قلب تونس» الموقوف حالياً في السجن نبيل القروي، ووزير الدفاع المستقيل المدعوم من حزبَي «نداء تونس» و«آفاق تونس» عبد الكريم الزبيدي. وتضاف إلى هؤلاء مجموعة أخرى أقلّ حظوظاً تشمل رئيس الجمهورية السابق منصف المرزوقي، ورئيس الحكومة الأسبق المستقيل من «حركة النهضة» حمادي الجبالي، ورئيسة «الحزب الدستوري الحر» عبير موسي، ورئيس «تيار المحبة» الهاشمي الحامدي.
اختار أغلب المرشحين البدء بجولات في الفضاءات العامة للقاء الناخبين والاقتراب منهم (أ ف ب )

انطلق جميع هؤلاء تقريباً في حملتهم الانتخابية أمس، واختار أغلبهم البدء بجولات في الفضاءات العامة للقاء الناخبين والاقتراب منهم، باستثناء نبيل القروي الذي يقبع في السجن. وعلى رغم إيقافه بسبب قضية تبييض أموال وتهرّب ضريبي تخصّ قناة «نسمة» التلفزيونية التي يديرها وشركات إشهار يملكها، لا يزال القروي مرشحاً للرئاسة، نظراً إلى عدم صدور حكم قضائي نهائي في حقه، وقد اختار مساندوه ومسيّرو حزبه إطلاق حملته الانتخابية من مدينة قفصة جنوب البلاد. التقارب في حظوظ المترشحين الأساسيين عكسته نتائج عملية استطلاع الآراء، من دون أن يحجب ذلك تفاوتاً معتبراً بينها. تقوم هذه العملية على تحديد عيّنة ممثِّلة من المواطنين، ومن ثم سؤالهم عن تفضيلاتهم السياسية، وقد اكتسبت شعبية في الانتخابات الماضية حيث جاءت النتائج الفعلية متقاربة مع نتائجها. لكن كانت هذه السوق في يد بضع شركات استطلاع، في حين تضاعفت اليوم، نظراً إلى الطلب المتزايد على خدماتها. حتى الآن، تتضارب النتائج التي نشرتها عدة شركات، ويعود هذا إلى عدة أسباب، أهمها اعتمادها عيّنات صغيرة وغير ممثِّلة لجميع الناخبين، ومحاولتها إرضاء الجهة المموّلة لاستطلاع الرأي، والتي غالباً ما تكون أحزاباً للحفاظ على تدفّق الأموال.

مفارقة الانتخابات
بعيداً عن الجوانب الشكلية، تفتقر هذه الانتخابات إلى رهان جدي، على عكس سابقتها. عام 2014، وفي الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، خاض المرشحان صراعاً على أرضية مبادئ متناقضة، لعبت نتائج الانتخابات التشريعية دوراً مهماً في رسمها. من ناحية، حاز «نداء تونس» نصيب الأسد من مقاعد البرلمان، وكان زعيمه الباجي قائد السبسي ينوي إكمال المسار بالفوز في الرئاسية. ومن ناحية ثانية، رفع منصف المرزوقي شعار «منع تغوّل» خصومه والحفاظ على توازن بين شطرَي السلطة التنفيذية، مستنداً في جزء كبير من حملته إلى مخاوف الإسلاميين من نشوء نظام يكرر تجربة اضطهادهم، على رغم خلفيّته العلمانية. لا يوجد هذا الرهان في الانتخابات الرئاسية الحالية، فقد تجاوزت البلاد بدرجة كبيرة الانشطار بين العلمانيين والإسلاميين، كما أن الانتخابات التشريعية ستُنظَّم بعد الرئاسيات، ما يترك هامشاً صغيراً لعقد صفقات.
تفتقر هذه الانتخابات إلى رهان جدي، على عكس سابقتها


كل هذا يترك المترشحين من دون محتوى فعلي للحملات، خاصة مع ضعف صلاحيات رئيس الجمهورية. في واقع الأمر، يعطي الدستور دوراً للرئيس في ميدانَي الدفاع والخارجية، ودوراً ثانوياً في الأمن، ويمكن لرئيس الحكومة أن يضعف حضوره أكثر إن أراد ذلك. بناءً على ما سبق، صار طيف واسع من المترشحين يبشّرون بطرح مبادرات لتعديل الدستور وتوسيع صلاحيات رئاسة الجمهورية. مسألة ضعف الصلاحيات تبدو حقيقة يسعى مرشحون إلى إنكارها أو الالتفاف عليها، عبر القول مثلاً إن شخصية الرئيس هي التي ستضفي أهمية على المنصب، وكأن الكاريزما ستجعل الصلاحيات تتوسع فجأة، أو كأن تعديل الدستور مسألة هيّنة لا تتطلب موافقة أغلب أعضاء البرلمان.
يبدو أن هذا الصنف من المرشحين لم يتعلموا الدرس الذي تلقاه قائد السبسي، مع أن قوة شخصيته وطول تجربته يتجاوزان ما لدى أغلبهم. النظام السياسي التونسي برلماني معدّل، لكن أصرّ قائد السبسي على الوصول إلى منصب رئيس الجمهورية، وظن أنه سيمارس من هناك سلطة على رئيس حكومة يختاره هو. نجح الأمر في البداية مع الحبيب الصيد، لكنه تعثر مع قدوم يوسف الشاهد الذي قرر ممارسة جميع صلاحياته من دون الرجوع إلى رئاسة الجمهورية. حاول قائد السبسي لعب ورقة تعديل الدستور أيضاً، لكنه فشل، وأمضى عامه الأخير في محاولة السيطرة على الشاهد وإحباط برامجه السياسية.