حين أصدر الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، نهاية الشهر الماضي، أوامر ملكية كان أبرزها استقلال وزارة الصناعة عن وزارة الطاقة، لم يكن كثير من المتابعين على علم بأن سلة الأوامر غير المثيرة تلك كانت تمهيداً وترتيباً لغزوة آل سعود على وزارة الطاقة للمرة الأولى في تاريخ المملكة. اتضح لاحقاً أن ثمة تعديلات جديدة، ليست بالهامشية، بيّتها الملك سلمان، تتركّز بشكل رئيس في تعميق وتوسيع قبضة البيت «السلماني» بشكل مباشر وشامل على مفاصل الثروة والقرار في الدولة، وتمتد إلى إنفاذ السياسات غير التقليدية التي يعتمدها هذا البيت، والمختصرة في برنامج التحول بقيادة ولي العهد محمد بن سلمان.
الأمير عبد العزيز بن سلمان، من مواليد 1960، هو الابن الرابع للملك والأخ غير الشقيق لولي العهد (أ ف ب )

خاض سلمان «أم المعارك» مع باقي أنجال عبد العزيز المؤسس وأجنحة العائلة، يوم انقلب على وراثة الأبناء للعرش أولاً، ثم انقلب على الأحفاد من غير صلبه (محمد بن نايف)، حتى قرّب ابنه ولياً للعهد. بعد تلك الجولات استتبّ له الأمر، وبات يحتاج إلى «غزوات» مريحة، لا تتطلّب كثير عناء وخسائر، سوى مراعاة استثارة من تبقى من أهل النفوذ داخلياً أو إحداث جلبة في الخارج، فيأتي الأميركيون طلباً لـ«الهدوء». لكن أيضاً باتت الأوضاع أكثر استتباباً للعرش «السلماني» بعد واقعة «الريتز كارلتون». يومها، قبل ما يقارب سنتين من الآن، أكمل سلمان بن عبد العزيز صياغة «نظام» جديد على أنقاض «الشراكة» بين أجنحة آل سعود، ليتفرّد بالسلطة مع أولاده، يرفدهم أهل الطاعة والتسليم من بعض بيوتات أولاد عبد العزيز، وإن في مناصب هامشية تتقلص يوماً بعد آخر. وقد تعرّض التفرّد وإلغاء «نظام الشراكة» التاريخي (الذي يوزّع نفوذ الاقتصاد والاعلام والعسكر و... بين الأجنحة) لاهتزاز كبير حين تهشّمت تجربة ابن سلمان إثر قتل الصحافي جمال خاشقجي، ليضطر الملك سلمان إلى التخفيف من هذه السياسة وإعادة هامش لـ«الحلفاء»، فتمَّ تقريب بعض الأمراء، وبرزت عودة الأمير أحمد بن عبد العزيز، الذي عيّن نجله الأمير سلطان في جملة التعيينات، سفيراً لدى البحرين.
الملك سلمان، لا سيما عقب مقتل خاشقجي، يحاول أن يخفف من تركّز السلطة في يد نجله


تأتي الأوامر الملكية الجديدة بعد تجربة تصعيد ثانية لأولاد سلمان، مع الأمير خالد، وهو الذي انتكست سريعاً مسيرته في أحد أهم مناصب المملكة السياسية والدبلوماسية (سفارة واشنطن) عقب قتل خاشقجي، حين أعيد إلى الديار على عجل، حيث تمّت «إعادة تدوير» صاحب «السمو الملكي» فعيّن نائباً لشقيقه وزير الدفاع. وقد أنهى خالد قبل أيام عبر زيارته لواشنطن، وبعد تعيين ريما بنت بندر بن سلطان مكانه في منصب السفارة، إحجام آل سلمان عن زيارة الدول الغربية تجنّباً للنقمة من سياسات محمد بن سلمان.
ربما انشغالات السنتين الماضيتين، بعد «مجزرة الريتز» ومن ثم ذيول قتل خاشقجي وإخفائه، أخّرت استكمال ما يريده الملك سلمان، فقد مهّد لتسليم ابنه الرابع الأمير عبد العزيز (مواليد 1960) وزارة الطاقة، أهم وزارة في المملكة النفطية (كانت تعرف في ما مضى بوزارة البترول والثروة المعدنية) خلفاً لخالد الفالح، وهي وزارة تعاقب عليها خمسة وزراء من تاريخ ولادة عبد العزيز (1960) ليس أحد بينهم من العائلة الحاكمة. عبد العزيز، المتخصص في المجال والملتحق بالعمل في الوزارة منذ الثمانينيات، تولى في 2017 وزارة الدولة لشؤون الطاقة، بعد أن كان نائباً لوزير الطاقة. لكن أهم ما في سيرته الذاتية هو العمل مع «أوبك» والإشراف على الدعاوى المرفوعة أمام المحاكم الأميركية ضد شركة «أرامكو». وصول عبد العزيز يأتي في مرحلة حساسة، فهو يخلف الفالح الذي كان لا يخفي توجّسه من مشروع طرح نسبة من «أرامكو» للاكتتاب في البورصات العالمية، لا سيما جراء خطر الدعاوى الأميركية التي للمفارقة خبرها عبد العزيز جيداً. الاستحقاق الأقرب هو المرحلة الأولى من الطرح المحلي نهاية العام، قبل المرحلة الثانية للطرح المتعثّر، في 2020 أو 2021، وهي التي لم تتحدد وجهتها بعد. وأشارت صحيفة «وول ستريت جورنال» إلى أن الشركة تميل إلى طرح أسهمها في بورصة طوكيو لا نيويورك أو لندن، وهو ما يضع أسئلة سياسية حول إمكانية تجاهل العاصمتين الغربيتين ونتائجه. وفي خطوة على نية الرياض تسريع الطرح، عيّنت الحكومة، الأسبوع الماضي، ياسر الرميّان رئيساً لمجلس إدارة «أرامكو»، خلفاً للوزير الفالح. والرميّان كان يشغل منصب محافظ صندوق الاستثمارات العامة الذي باتت تقارب أصوله 320 مليار دولار.
سينصب جهد المراقبين في المرحلة المقبلة على متابعة آثار التغييرات الجديدة ومدى خدمتها لـ«رؤية 2030»، لا سيما أنها تعزز فكرة التخفف من الاعتماد على النفط مع فصل وزارة الصناعة عن الطاقة. وقد دشّنت الرياض، أمس، برنامجاً لتراخيص مزاولة أنشطة الصناعات العسكرية، وفي الموازاة أصدر الملك قراراً بمنع تعاقد الجهات الحكومية مع المكاتب والشركات الأجنبية لتقديم الخدمات الاستشارية إلا في أضيق الحدود، وهي خطوات تستهدف جميعها تفعيل برنامج «التحول» عبر تكثيف «سعودة» الوظائف وتشجيع الصناعة. ما سيأخذ كذلك حيزاً من المتابعة، في الداخل والخارج، هو وجود تبدل في سياسة الرياض من عدمه تجاه الولايات المتحدة والنفط و«أوبك»، خصوصاً أن الفالح كان مهندس اتفاق خفض الانتاج مع روسيا وباقي المنتجين من خارج المنظمة (أوبك بلس) في ظلّ حرب نفطية تخاض بالتنسيق مع واشنطن ضد إيران. إلا أن وكالة «رويترز» نقلت أمس عن مسؤول سعودي أنه «لا تغيير في سياسة النفط السعودية ولا في سياستها تجاه أوبك».
في الداخل، وخلف أسوار قصور آل سعود، تثير التعيينات الجديدة أسئلة حول ما يريده الملك سلمان أبعد من ملف شركة البترول ووزارته. فتصعيد الأخ غير الشقيق لمحمد بن سلمان، في منصب حساس يطلّ على ثروات البلاد ودرة تاجها «أرامكو»، يعدّ سابقة ويفوق أهمية مشاركة شقيقه خالد في كعكة الحكم، وذلك بعد أن أراد ولي العهد الحالي أن يهيمن باكراً على الملف الاقتصادي من خلال ترؤسه «مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية» المستحدث في 2015. يتضح أكثر أن الملك سلمان، لا سيما عقب مقتل خاشقجي، يحاول أن يخفف من تركّز السلطة في يد نجله الأمير محمد، وإن كان يحرص على أن تجتمع في بيته دون باقي الأجنحة، بل الآن دون العائلات أو الشخصيات البيروقراطية من غير «أصحاب السمو الملكي». على هذا، ستخرج علامات استفهام جديدة من قصور جدة والرياض، سواء بشأن بقية «الحصص»، كوزارتي الداخلية والخارجية، وعن طبيعة العلاقة التي ستنشأ بين أنجال سلمان، أو الانقلاب المؤجل، وهو لا بد آت، على تعديل 2017 للفقرة «ب» من المادة الخامسة في نظام الحكم، التي باتت تنص على أنه «لا يكون من بعد أبناء الملك المؤسس ملك وولي للعهد من فرع واحد من ذرية الملك المؤسس».