أُعلن، أمس، رسمياً، أن نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها بلغت 45% داخل تونس، وحوالى 18% خارجها، وهي نسبة متقاربة مع نظيرتها في الانتخابات السابقة عام 2014، مع أن عدد المسجلين ارتفع بأكثر من مليون ونصف مليون. على مستوى النتائج، ومع فرز ما يقارب نصف الأصوات، تميل النتائج الرسمية إلى تأكيد تقديرات شركات استطلاعات الرأي، التي كشفت مبكراً عن تصدّر قيس سعيّد بحوالى 19.5 بالمئة من الأصوات، يليه نبيل القروي بـ15.5 بالمئة. يحمل البرنامجان السياسيان لسعيّد والقروي ملامح شعبوية، لناحية الاتصال المباشر بالناس، وادعائهما إعطاءهم صوتاً أقوى في تقرير مصيرهم أمام منظومة حكم فاسدة، لكنّ حاشيتيهما وأسلوبيهما وجمهوريهما وتاريخيهما الشخصيين مختلفان حدّ التناقض.
لم يكن أحد من الجمهور الواسع يعرف قيس سعيّد قبل سقوط نظام بن علي (أ ف ب )

نبيل القروي: من الإعلام إلى السياسة
برز نبيل القروي في الفترة الأخيرة من حكم زين العابدين بن علي، عندما أسّس قناة «نسمة» التلفزيونية في سياق سعي النظام إلى تنويع المشهد الإعلامي الموالي له. بعد الثورة، ارتبك القروي، وحاول التخلّص من وصمة الولاء للنظام، لكنه وجد سريعاً طريقة لضمان بقائه. مستفيداً من صعود نجم السلفية وحركة «النهضة»، وبروز مخاوف منهما، لعب القروي على تناقضات المشهد الجديد، وركب موجه العداء للإسلاميين. مع الوقت، صار الانقسام المجتمعي أكثر وضوحاً، وعلم القروي وجوب إيجاد وجه تجميعي للشتات الرافض للإسلاميين. ووفق تصريحات له، فهو لعب دوراً محورياً في إقناع الباجي قائد السبسي، الذي تولى رئاسة الحكومة عام 2011 واختفى من المشهد بعد الانتخابات، بتأسيس حركة «نداء تونس». في الأعوام اللاحقة، تولّى القروي مسؤوليات داخل الحركة التي فازت في الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2014، لكنه هُمّش على أيدي قوى أخرى داخلها، وهنا جاء التحوّل الكبير في مسيرته.
تزامن تراجع أسهم القروي مع وفاة نجله خليل، حيث أظهر أنه بصدد الابتعاد عن السياسة وتبنّي العمل الخيري عبر جمعية «خليل تونس». على مدى أكثر من عامين، استقبل الرجل مساعدات لصالح الجمعية ووزّعها على المحتاجين، وبثّ «أعماله الخيرية» على شاشة تلفزته. تدريجياً، اكتسب تعاطفاً من الناس، حوّله بمساعدة مدفوعة من شركات استطلاعات الرأي إلى رأس مال سياسي. في خضمّ كلّ ذلك، كان القروي يتابع قضائياً، بعد نشر جمعية «أنا يقظ»، المهتمّة بالشفافية ومقاومة الفساد، تحقيقاً حوله يحوي شبهات تبييض أموال وتهرّب ضريبي. على مدى أكثر من عامين، لم تتحرك القضية كثيراً، لكنها أخذت زخماً خلال هذا الصيف، حيث جُمّدت أموال القروي وشقيقه ومُنعا من السفر في مرحلة أولى، ثم أودعا السجن قبل أيام من انطلاق الحملة الانتخابية.
يَعِد القروي ناخبيه بـ«القطع مع الفقر»، ويقول في برنامجه الانتخابي إن أولويته ستكون صياغة «عقد اجتماعي» توقع عليه الأحزاب والمنظمات وشخصيات وطنية، ويهدف إلى القضاء على الفقر والبطالة. لا يطرح الرجل أيّ آليات لتنفيذ هذا الوعد، كما يحيط نفسه برجالات المنظومة التي يدّعي معاداتها، حيث يتشكّل حزبه «قلب تونس» المُؤسَّس حديثاَ من منشقين عن «نداء تونس» وشخصيات من نظام بن علي. تظهر تقديرات شركات استطلاعات الرأي أن جمهور القروي أغلبه من البسطاء والضعفاء، سواء من الناحية المادية أو التعليمية، وكبار السن، وهؤلاء هم من يشاهد تلفزته التي تبثّ المسلسلات التركية على مدار اليوم، خاصة أن أغلب ناخبيه من النساء. تقول شركة «سيغما كونساي»، مثلاً، إن حوالى 40 بالمئة من الأميين، ونحو 30 بالمئة من أصحاب التعليم الابتدائي، وحوالى 20 بالمئة مِمَّن سنّهم بين 46 و60 عاماً، ونحو 25 بالمئة مِمَّن يتجاوز سنهم 60 عاماً، صوّتوا للقروي (النسب تشمل من أدلوا بأصواتهم فقط).

قيس سعيّد: من الظلّ إلى الصدارة
لم يكن أحد من الجمهور الواسع يعرف قيس سعيّد قبل سقوط نظام بن علي. بدأ الرجل ظهوره بشكل محتشم، حيث كان يُستدعى كأستاذ قانون دستوري لإعطاء رأيه في بعض المسائل، وبقي ظهوره محتشماً طوال الأعوام الماضية. ما جذب الأنظار إلى سعيّد هو أسلوبه في الحديث ومواقفه الحاسمة. لا يوجد أيّ تسجيل تقريباً يتحدّث فيه الرجل باللهجة العامية، جميع مداخلاته وحواراته يجريها بلغة عربية كلاسيكية، لا تشبه لغة الصحافة ولا المتكلمين في الإعلام، وهي أقرب إلى لغة كتب مؤلّفي بدايات القرن العشرين، لناحية العبارات والتشبيهات. علاوة على ذلك، يتحدث سعيّد باسترسال مذهل، ونغمة تشبه أسلوب مقدمي الأخبار، يعززها صوته الجهوري وتقاسيم وجهه وحركات جسده الباردة.
لم يفصح أيّ من المرشّحين الذين جاءوا في المرتبة الثالثة وما بعدها عن رأيهم في ما حصل


من ناحية المضمون، ينقد سعيّد دائماً ممارسات الطبقة السياسية السائدة، خاصة تلاعبها بالقانون أو عدم مبالاتها به. ارتفعت أسهمه في صفوف الشباب عندما رفض «قانون المصالحة» الذي اقترحه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وظلّ يدافع عن الثورة وشعاراتها حين غابت عن الإعلام وحديث السياسيين. عام 2014، نشطت على مواقع التواصل الاجتماعي حملة لترشيحه إلى الرئاسة، لكنه رفض، وقال في حوار معه إنه تمنّع لمعرفته بالوضع السياسي السائد حينها. بعد ذلك، استمر في حضوره الإعلامي المخفّف، لكن ظلّ اسمه حاضراً ضمن المرشحين الأوفر حظاً، من دون أن يتحدث عن موضوع الانتخابات أو يعمل على بلورة مشروع سياسي. بطلب من جمهور يسنده، ترشّح سعيّد، والتفّ حوله جمع من الناس. خلال الحملة، رفض تلقّي تمويل من داعمين، ورفض حتى تلقّي تمويل عمومي. تمّت الدعاية بوسائل محدودة جداً: بضع جولات في الشوارع، بعض الجلسات الحوارية في مناطق شعبية، ومن دون لوحات إعلانية أو حملات مموّلة في الشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
يرى سعيّد أن نظام الحكم الحالي «وُضع على (الـ)مقاس» من صاغه، وهو غير نابع من إرادة شعبية حقيقية. لإصلاح ذلك، يقترح تعديل الدستور لتغيير نظام انتخاب نواب الشعب القائم حالياً على قائمات عمودية تترشّح في كلّ محافظة ويصعد منها أعضاء وفق عدد الأصوات التي تتحصل عليها، إلى نظام قائم على التصويت لأفراد يتنافسون على مستوى أكثر محلية ويمكن للناخبين التصويت لتغييرهم في حال عدم التزامهم ببرنامجهم، إضافة إلى تشكيل مجالس حكم محلية. يبدو ما يطرحه سعيّد غارقاً في المثالية، وهو يهدف إلى تعزيز تمثيلية المواطنين وإعطائهم دوراً أكبر في صياغة واقعهم، وبالتالي الحدّ من مركزية الحكم. يحوي هذا الطرح قدراً من الشعبوية، لكنها أقرب إلى الشعبوية اليسارية والنموذج الذي عمل على تأسيسه هوغو تشافيز، وخاصة أنه يتسلّح بخطاب ثوري موجّه ضدّ نخبة محلية وضدّ القوى الكبرى الخارجية التي يرى أنها تنهب ثروات البلدان المشابهة لتونس، ويعتبرها مسؤولة عن تقسيم العرب وإضعاف مفهوم الأمة العربية (يجب هنا الإشارة إلى أن مدير حملة سعيّد هو رضا شهاب المكي، الذي كان أحد أبرز القادة اليساريين الجذريين في الساحة الطلابية خلال الثمانينيات).
المثير هو أن قيس سعيّد تحصّل على الجزء الأكبر من أصوات الشباب والفئات الأكثر تعليماً، وينقسم ناخبوه بشكل متوازن بين الإناث والذكور. وفق أرقام «سيغما كونساي»، تحصّل الرجل على أصوات 37 بالمئة من الشباب بين سن الثامنة عشرة والخامسة والعشرين، وأكثر من 20 بالمئة من أصوات الشباب والكهول بين 26 و45 عاماً، فيما تحصّل على 10 بالمئة فقط من أصوات الفئة الأكبر سناً، ونسبة متدنية من أصوات من يزيد عمرهم على 60 عاماً. على مستوى التعليم، تحصّل سعيّد على النسبة الأعلى من أصوات أصحاب المستوى الجامعي (حوالى 25 بالمئة)، وكذلك النسبة الأعلى من أصوات المتحصلين على تعليم ثانوي (20.6 بالمئة)، فيما جاء في المرتبة الثالثة بالنسبة إلى أصحاب التعليم الابتدائي (12 بالمئة) والأميين (7.6)، بعد نبيل القروي ومرشح حركة «النهضة» عبد الفتاح مورو.

أفق ضبابي
حتى الآن، لم يفصح أيّ من المرشحين الذين جاءوا في المرتبة الثالثة وما بعدها عن رأيهم في ما حصل، وعمّا إذا كانوا سيدعمون أحداً من المتبقين. يعود صمتهم إلى عدم انتهاء الفرز وإعلان النتائج النهائية، لكنه يعود أيضاً إلى ارتباكهم من النتائج. كان يُتوقع على نطاق واسع وصول نبيل القروي ومرشح أحد الأحزاب الكبيرة ضمن منظومة الحكم، لكن لم تجر الأمور على هذا النحو. مع ذلك، يمكن القول بحذر إن سعيّد له حظوظ أكبر في الفوز في الجولة الثانية. فمن ناحية، يبدو الأقرب إلى جمهور الإسلاميين، وخاصة أنه عبّر عن موقف متحفّظ من مسألة المساواة في الإرث، ويبدو متصالحاً مع التديّن، كما يبدو في الوقت نفسه الأقرب إلى جمهور اليسار. من ناحية ثانية، ثمة عداوة واضحة بين الأحزاب الكبرى ونبيل القروي، ويجب هنا التذكير بالمحاولة الفاشلة لرئيس الحكومة، يوسف الشاهد، وحركة «النهضة»، لصياغة قانون يعيق ترشّحه، فيما يُعتقد على نطاق واسع أن الشاهد هو من يقف وراء سجنه في هذه الفترة.