تُقرأ مواقف عادل عبد المهدي الأخيرة على أنها محاولة لكسر جدار الهيمنة الأميركية على بنية الدولة العراقية ومؤسساتها. إشاراتٌ متلاحقة تنبئ بتوجّه لدى رئيس الوزراء الحالي لتنويع شراكات البلاد، على قاعدة أن للشرق حقّاً في أن يكون لاعباً في العراق، مع احتفاظ الأخير بخصوصيته، واستفادته من موقعه الجيوسياسي لتعزيز دوره في المنطقة. من هنا، يُنظر إلى زيارة عبد المهدي للصين. زيارةٌ أشبه ما تكون بـ«العودة إلى جذور الانتماء، حيث كان عادل شيوعياً ماويّاً في شبابه»، وفق ما علّق البعض عليها. هي خطوة، إلى جانب خطوات أخرى، تستبطن نَفَس الانعتاق من القيود الأميركية والمضيّ نحو المعسكر الشرقي، فضلاً عما يحمله التوقيع على اتفاقيات عسكرية واقتصادية وتنموية من دلائل على أن بغداد تسعى إلى إعادة إنتاج نفسها. كلّ ذلك، مصحوباً بحديث عن أن واشنطن «غير مرتاحة لهذه الحكومة»، قد يكون من الأسباب الدافعة لإطاحة عبد المهدي، والبحث عن خيار يمنح الأميركيين هامش مناورة أكبر في «بلاد الرافدين».مثّل تكليف عادل عبد المهدي لرئاسة الحكومة العراقية، وتأليفُها لاحقاً، تحوّلاً نوعياً في المشهد السياسي، نُظر إليه على أنه «صفعة» للولايات المتحدة وحلفائها. «صفعة» يضعها مراقبون في إطار «الصفعات المحمولة»، التي لا تجد واشنطن نفسها إزاءها معنيّة بالرد المباشر والفوري؛ إذ طالما أن الراهن «مضبوط»، ولا يشكّل خطراً على الأميركيين، فإن مقاربة الآخرين للواقع القائم تبدو أقرب إلى الاستيعاب والتعامل معه كـ«أفضل الخيارات المتاحة». مع ذلك، يبدو أن الأمور تواصل السير بما لا تشتهيه الولايات المتحدة، خصوصاً وأن بغداد تحاول جدّياً الانعتاق من القيود الأميركية التي استحكمت بالبلاد طوال العقد الماضي.
في هذا السياق، تضع مصادر سياسية عدة خطوات عبد المهدي، منذ أن رفض لقاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في «قاعدة عين الأسد الجوية» أواخر العام الفائت، ومن بعد ذلك المضيّ قدماً في التعاقد مع شركة «سيمنس» الألمانية لتطوير القطاع الكهربائي على حساب شركة «جنرال إلكتريك» الأميركية، ثم التأجيل «غير المبرّر» (من قِبل الجانبين) للقاء ترامب - عبد المهدي. يضاف إلى ما تقدم تمسّك الحكومة العراقية بموقف الحياد تجاه الاشتباك الأميركي - الإيراني المتصاعد في المنطقة، والعمل على تفعيل خط طهران - بغداد - دمشق - بيروت. كلّها معطيات تشي بأن عبد المهدي ماضٍ في البحث عن خيارات تنسجم مع موقع العراق الجغرافي، وتُعزّز دوره السياسي والاقتصادي، إقليمياً وعالمياً.
زيارة الصين لاقت الكثير من الاعتراضات على منصات التواصل الاجتماعي


الزيارة الأخيرة المطوّلة إلى الصين، والتي اختُتمت قبل يومين، يمكن تلخيصها بعبارة واحدة: العراق عازمٌ على إعادة إنتاج نفسه. وهو ما تعبّر عنه مصادر حكومية بالقول: «ليس الهدف استبدال علاقاتنا بين الغرب والشرق... نحن نبحث عن مصالحنا، وإقامة علاقات متوازنة مع الجميع». وتضيف المصادر، في حديثها إلى «الأخبار»، أن الحكومة لديها «مواقفها الثابتة، ورؤاها السياسية والاقتصادية، وقرارها المستقلّ في تنويع علاقاتها، من دون أن تكون في محور ضد آخر»، بل «سنلعب دوراً مهمّاً في تهدئة الأزمة الإقليمية، وضد اللجوء إلى الحرب والعقوبات»، في تعليق سريع منها على زيارة عبد المهدي للسعودية، ولقائه الملك سلمان ووليّ عهده محمد بن سلمان أول من أمس.
كثيرون يراهنون على رئيس الوزراء الحالي في النهوض بالبلاد، بوصفه «مفكراً سياسياً - اقتصادياً»، مستدلّين على ذلك بخطابه قبل سفره إلى الصين، وقوله إننا «نريد لهذه الزيارة أن تكون قفزة نوعية في العلاقات بين البلدين»، وإشارته إلى أن اصطحابه «وفداً من كبار المسؤولين التنفيذيين مردّه إلى أن العراق يعمل - منذ فترة - على تطوير علاقات استراتيجية مع الصين، المعروفة بقدراتها الاقتصادية والتقنية، ومساهماتها الطويلة في الإعمار والبناء». هدف الزيارة، وفق عبد المهدي، كان «تكوين علاقات إطارية للشراكة الاستراتيجية، لينهض العراق ويعيد بناء بنيته التحتية واقتصاده ومجتمعه، ويحقق تقدماً ملموساً في التخلص من عوامل البطالة والفقر والأمية والتخلف».
تبرز في كلام عبد المهدي إشارتان: الأولى سعي العراق إلى «تعميق علاقاته بالشرق وبالبلدان الآسيوية»، والثانية انضمامه إلى مبادرة «الحزام والطريق»، حيث أعلن رئيس الوزراء «(أننا) نسعى لربط الشرق الأدنى بالشرق الأقصى، بما عُرف تاريخياً بطريق الحرير، والذي كان أيضاً طريق التوابل». وفي الإطار نفسه يأتي مرور عبد المهدي على الهند، وإعلانه من هناك «(أننا) بحثنا مع المسؤولين في الحكومة الهندية تفعيل اللجنة المشتركة بين العراق والهند (لم تجتمع منذ عام 2013)، واتفقنا على أهمية تبادل الزيارات... فالنفط العراقي يحتلّ المكانة الأولى في الاستيرادات النفطية الهندية، وللعراق علاقاته التجارية والسياسية والثقافية بالهند، والتي تمتدّ إلى العصور القديمة».
زيارة عبد المهدي إلى الصين لاقت الكثير من الاعتراضات على منصات التواصل الاجتماعي، في حين تصفها مصادر مقربة من الرجل بـ«العملية والمفصلية والناجحة، إذ أنها أتت بنتائج سريعة عبر الاتفاقات المعلنة، وكذلك لمستقبل التعاون المشترك»، فهي الأهم «منذ عام 2003 بهذه النتائج والأثر المتوقع»، وهدفها الرئيس «إعمار العراق واستقراره وتطوير بنيته التحتية والقطاعات الخدماتية، وترسيخ العلاقة مع شريك قوي ومهم وموثوق للعراق». ولئن وصف البعض الزيارة بـ«المستعجلة»، إلا أن المصادر المذكورة تلفت إلى أن «رئيس الوزراء خطّط لهذه الزيارة منذ وقت مبكر، وقد تبنّى تأسيس صندوق الائتمان المشترك من الواردات النفطية، مقابل الإعمار من قِبَل الجانب الصيني»، كما أعلن، خلال لقائه بالرئيس الصيني شي جينبينغ، انضمام بلاده إلى مشروع الصين الضخم للبنية التحتية، والمعروف بمبادرة «حزام وطريق» المشتملة على مشاريع عالمية ضخمة من موانئ وسكك حديد ومجمّعات صناعية تمتدّ في أنحاء آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا، وسيتمّ استثمار تريليونات الدولارات في إطارها. وتُعدّ بكين أكبر شريك تجاري لبغداد، بحجم تبادل يناهز الـ30 مليار دولار سنوياً، فيما يعتبر العراق ثاني أكبر مصدّري النفط بالنسبة إلى الصين، بمعدّل مليون برميل يومياً. وقائعُ بنى عليها عبد المهدي في تأسيس الصندوق المشار إليه، وذلك من أجل إيجاد إطار تمويلي لمشاريع البنى التحتية الكبرى، لأن الواردات النفطية «ضمانةٌ وقاعدةُ متينة لهذه الشراكة... ومن خلالها يمكن المضيّ في تطوير تلك المشاريع وجميع القطاعات الحيوية الأخرى»، تقول المصادر في حديثها إلى «الأخبار»، مشيرة إلى أن بغداد ستمنح الشركات الصينية امتيازات خاصة لـ«تشجيعها للعمل في العراق، وضمان سرعة التنفيذ، والكفاءة في الأداء، والجودة في الإنتاج».

يعدّ العراق ثاني أكبر مصدّري النفط بالنسبة إلى الصين


من شنغهاي، قال عبد المهدي «إننا ننتمي إلى آسيا... ونريد أن نكون جزءاً من نهوضها، والصين في مقدمة الدول التي تقود نهضة الشرق»، مضيفاً أن بلاده تسعى للتعاون والشراكة مع جمهورية الصين الشعبية، وبناء علاقات عميقة وممتدة ومستدامة. تصريحاتٌ تفسّر حجم الاتفاقات الموقعة هناك، والتي شملت المجالات المالية والتجارية والأمنية والإعمار والاتصالات والثقافة والتعليم والخارجية. لكن السؤال في نهاية المطاف، ومع عودة عبد المهدي، سيبقى في اتجاهين: الأول حول قدرة عبد المهدي على تحقيق أهدافه في ظلّ الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، خاصة أن «الدولة العميقة» من شأنها كفّ يد الحكومة عن أي مشروع نهضوي، ما لم تكن «لها حصتها من الكعكة». أما الثاني، ففي شأن مدى استعداد الولايات المتحدة لتقبّل هذا التحوّل، علماً أن سلف عبد المهدي، نوري المالكي، توجّه إلى الشرق، ولكن نحو الكوريين الجنوبيين، ولم ينخرط فعلياً في مشروع «حزام وطريق». إزاء ذلك، بدأ يدور حديث، ولو همساً، عن تحرك أميركي لإطاحة عبد المهدي، ربطاً بأجندة الرجل، ورؤيته للعراق خارج سرب الولايات المتحدة، فهل تعمد الأخيرة، قريباً، إلى تحريك «أدواتها» في الاتجاه المذكور؟