تعيش تونس غداً على وقع الانتخابات التشريعية الديمقراطية الثانية في تاريخها، والثالثة أخذاً في الاعتبار «المجلس التأسيسي» الذي تولّى كتابة دستور جديد ولعب أيضاً أدوار البرلمان (2011ـ 2014). وتختلف الرهانات التي حملتها كلّ انتخابات: عام 2011، كان الهمّ الرئيس كتابة دستور يكون الحجر الأساس الذي تُبنى عليه فلسفة حكم جديدة؛ وعام 2014، كان الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين والوصول إلى تفاهم بينهم يحفظ البلاد من الانقسامات الهوياتيّة المحور الأهم؛ أما اليوم، فتبدو حماية المؤسسة التشريعية من اختراقات جماعات سياسية شعبوية، بعد الإنهاك الذي شهدته البلاد خلال الأعوام السابقة، الرهان الأهمّ. بالكاد، عرفت تونس استقراراً سياسياً طوال الأعوام الماضية. على المستوى التنفيذي، عصفت الأزمات بأكثر من حكومة: رئيسا حكومة إسلاميان، تلاهما رئيس حكومة تكنوقراطي مؤقت، ورثه رئيس حكومة تكنوقراطي مدعوم من الأحزاب الكبرى في البرلمان، وأخيراً رئيس حكومة من حركة «نداء تونس»، هو يوسف الشاهد، تخلّى عنه داعموه الرئيسون بعد أقلّ من عام على تعيينه، لكنه استمرّ لثلاثة أعوام بعد صراع مرير مع رئيس الجمهورية قاده إلى تأسيس حركته السياسية الخاصة. والأمر الأكثر سوءاً للجبهة البرلمانية هو غرق نواب الشعب في الصراعات الكلامية والمعارك الجانبية، حيث انشقّ كثيرون منهم عن كتلهم الأصلية، وترحّلوا بين عدد من الكتل الأخرى. أدّى ذلك إلى فوضى داخل مجلس نواب الشعب، قادت إلى اختلال التوازنات، وتغيّر تشكيلة الأغلبية الداعمة للحكومة بين الفَينة والأخرى بتغيّر الظروف. حصل كلّ هذا بينما أُهملت عشرات من مشاريع القوانين المُهمة وتُركت على الرفوف.
توجد طبعاً عدة أسباب وراء ما حصل، لكن أهمها يتعلّق بحركة «نداء تونس» التي انفلقت بعد أشهر قليلة من فوزها بالانتخابات، وتلك نتيجة طبيعية لخليط هجين شكّله الباجي قائد السبسي. في مسعاه لإطاحة الإسلاميين، بنى قائد السبسي مشروعاً سياسياً يقوم أساساً على تجميع معارضيهم، أنصار نظام بن علي مع حقوقيين ونسويين وشيوعيين ونقابيين قدامى. وتفاقمت التناقضات بين هؤلاء عندما سعى نجل الباجي، حافظ قائد السبسي، إلى وراثة منصب والده في «نداء تونس»، من دون أن يحاول الأخير ردعه أو نصحه. حاول قائد السبسي الأب، الذي انتُخب رئيساً للجمهورية، لملمة الصراع بينه وبين الإسلاميين، فالتقى بزعيم «حركة النهضة»، راشد الغنوشي، وقرّرا «التوافق» بينهما. حاول الرجل شطب الصراع الذي قسّم البلاد، وقد نجح في ذلك نسبياً، لكن خلق صراعات ثانوية كثيرة بدورها، أدخل الحكومة في صراع تكسير عظام مع النقابات، ولم تصل إلى حلّ وسط يجمع بين التزاماتها للترفيع في أجور الموظفين وتبنّيها «إصلاحات» صندوق النقد الدولي التي تنصّ على تقليص المصاريف الحكومية.
لا يوجد سوى حزبين تقليديين في توقّعات الفائزين بالانتخابات التشريعية


أنتج كلّ ذلك مشهداً عبثياً: صراعات داخل البرلمان، صراعات داخل الأحزاب، صراعات بين النقابات والحكومة، واحتجاجات شعبية مطالبة بتوفير فرص عمل وتنمية المناطق الداخلية. فرّخت هذه البيئة السياسية مشاريع شعبوية، تقودها أطراف تدّعي معارضتها لـ«منظومة الحكم». على رأس هؤلاء نبيل القروي، المرشّح للدور الثاني للانتخابات الرئاسية. انشقّ القروي عن «نداء تونس» قبل حوالي عامين، واستغلّ قناة «نسمة» التلفزيونية التي يملكها لإطلاق مشروعه الخاصّ الذي يقوم على تلقّي مساعدات وإعادة توزيعها على محتاجيها، وصار أنصاره يطلقون عليه لقب «أبي الفقراء». قبل الانتخابات بأشهر قليلة، أسّس القروي حزب «قلب تونس»، وعزّز صفوفه بمنشقّين آخرين عن «نداء تونس»، وهذا الحزب مرشّح لتصدّر الانتخابات التشريعية.
المشروع الشعبوي الثاني اللافت للنظر انطلق على يد امرأة أعمال تونسية - فرنسية. ألفة ترّاس رامبورغ أسّست جمعية «عيش تونسي»، واستثمرت مئات آلاف الدولارات في إجراء استطلاعات رأي أدت في النهاية إلى تأليف «وثيقة التوانسة» التي تحوي بضعة بنود فضفاضة حول استعادة الأمن وتقليص امتيازات السياسيين، وعزّزت مشروعها بإقامة فعّاليات ضخمة وإشهار سياسي مكثّف في الإعلام، وشراء ولاء فنانين شعبيين. وتضع استطلاعات الرأي حول الانتخابات التشريعية قوائم «عيش تونسي» في المراتب الأربع الأولى. المشروع الشعبوي الثالث الذي تتوقّع شركات استطلاعات الرأي وجوده في الرباعي المتصدر للانتخابات التشريعية هو «ائتلاف الكرامة». عملياً، يتزعم الائتلاف المترشح المنهزم في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، سيف الدين مخلوف، وهو محامٍ شاب بنى شهرته على الدفاع عن متهمين في قضايا ذات صيغة إرهابية. أما أبرز وجوه الائتلاف الأخرى، فتتوزّع بين مدونين يتبنون نظريات مؤامرة حول وجود أطراف خفية تُسيّر المشهد السياسي بالتعاون مع فرنسا التي تسيطر على تونس بصفة مطلقة، وبعض الوجوه المقرّبة من التيار السلفي.
في المقابل، لا يوجد سوى حزبين تقليديين في توقعات الفائزين بالانتخابات التشريعية. الحزب الأوفر حظاً هو «حركة النهضة» التي عدّلت خطابها بعد هزيمة مرشحها في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية، وأعادت تبني معجم الدفاع عن الثورة وعن مشاريع ذات نفس إسلامي مثل مشروع قانون لتنظيم الزكاة. التنظيم الثاني الأوفر حظاً هو «الحزب الدستوري الحرّ» الذي يتبنى الدفاع عن نظام بن علي وخياراته، لكن يبدو أن أسهمه تراجعت بفعل هزيمة مرشحته الرئاسية عبير موسي. اللافت للانتباه في هذه الانتخابات هو عدم استفادة أحزاب المعارضة التقليدية. تعطي توقّعات استطلاعات الرأي بعض المقاعد لأحزاب مثل «التيار الديمقراطي» من يسار الوسط، و«حركة الشعب» القومية العربية، لكنها لا تكفي للعب دور فعّال في تشكيل الحكومة. من الملاحظ أيضاً صعود أسهم القوائم المستقلة، والأغلب أن نوابها سينضمّون إلى أحزاب بعد وصولهم إلى البرلمان، وسيخضع ذلك في كثير من الأحيان لمنطق العرض والطلب والموالاة مقابل الامتيازات.
ينبغي هنا إضافة إشارة أخيرة حول مسؤولية الباجي قائد السبسي في ما يحصل. غادر الرجل عالمنا، لكنه سيترك بصمته في الانتخابات من خلال رفضه توقيع تعديلات على القانون الانتخابي اقترحتها الحكومة وصادق عليها البرلمان. تهدف تلك التعديلات إلى إقصاء طيف واسع من الشعبويين والمرشحين المشبوهين عبر سلّة من الشروط، أهمها: تقديم المترشّحين ما يثبت دفعهم كامل ضرائبهم للدولة، وتقديمهم بطاقة سوابق عدلية نظيفة، وإسقاط القوائم التي ثبت عليها منح رشاوى للناخبين أو تلقيها تمويلات من الخارج أو تبنيها خطاباً معادياً لحقوق الإنسان وممجّداً للدكتاتورية. علاوة على ذلك، كانت التعديلات تهدف إلى منع تشتّت مقاعد البرلمان بين عدد كبير من الأحزاب، عبر وضع عتبة انتخابية بـ3 بالمئة من الأصوات.