بلغت العلاقات التركية ــــ الأميركية ذروة توترها مع تهديدات دونالد ترامب لتركيا بتدمير اقتصادها، ومن ثم تحميل مايك بومبيو، رجب طيب إردوغان، مسؤولية الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة. لكن لقاء أمس بين إردوغان ومايك بنس أعاد خلط الأوراق على قاعدة «رابح ــــ رابح». ومع أن الرجلين ظهرا وهما يتصافحان متوترَين ومتجهّمَي الوجهين، فإن نتائج لقائهما المنفرد كما مع وفدي الطرفين كانت مفاجئة إلى حدّ ما.قدوم الإدارة الأميركية بالجملة إلى أنقرة كان مؤشراً على أهمية الزيارة، وعلى موقع تركيا القوي تجاه الولايات المتحدة والغرب. كان استمرار مجموع اللقاءين (لقاء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ونائب الرئيس الأميركي مايك بنس، ولقاء المسؤولين الأتراك مع الوفد الأميركي) لمدة 4 ساعات و20 دقيقة دليلاً على أن المحادثات دخلت في تفاصيل دقيقة بعد الاتفاق على العناوين الأساسية. ينص الاتفاق المؤلف من 13 نقطة على إعلان وقف العمليات لمدة 120 ساعة (خمسة أيام). وفي هذه الأثناء، تنسحب «قوات سوريا الديموقراطية» بعمق 32 كلم وعلى عرض 444 كلم من شرق عين العرب/ كوباني، وصولاً إلى الحدود العراقية، كما يتم نزع السلاح الثقيل منها. عقب ذلك، ستعلن تركيا انتهاء العمليات العسكرية، على أن تتولى واشنطن المسؤولية عن انسحاب القوات الكردية. وفي حال الإخلال بالوعد، فإن تركيا ستستأنف العمليات. أيضاً، سيتعاون الجانبان التركي والأميركي على محاربة «داعش». وسيكون الإشراف الأمني على «المنطقة الآمنة» للجيش التركي وحده. في المقابل، تتعهّد الولايات المتحدة بإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على تركيا، وبعدم فرض عقوبات جديدة.
اعتبرت تركيا، على لسان وزير خارجيتها مولود تشاووش أوغلو، أنها نالت ما تريده، وهو انسحاب الأكراد وإقامة «منطقة آمنة» بالمقاييس التي تريدها أنقرة، فيما عبّرت واشنطن عن سرورها بتغريدة من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وبتصريح بنس عن إنقاذ أرواح الملايين. إذاً، نال كل طرف ما يريده بما يعني أن الاتفاق الذي أُعلن عنه ينزع فتائل التوتر بين البلدين، ويعيد الحرارة إلى العلاقات المتأزمة. ولكنه يطرح في المقابل أسئلة عن موقع «قوات سوريا الديموقراطية» من المعادلة. فتصريحات بنس تعكس وجود تفاهم بين واشنطن والأكراد، في وقت كان فيه الأخيرون قد انسحبوا من مناطق عديدة وسلّموها إلى الجيش السوري، من منبج وعين العرب/ كوباني إلى القامشلي والحسكة والطبقة والرقة. يفتح هذا على تعاطي الأكراد في اتجاهين: مع الولايات المتحدة في مناطق «المنطقة الآمنة» المرتقبة، ومع روسيا وسوريا في المناطق الواقعة خارجها. وعليه، سيستمرّ الغموض حول تموضع «قوات سوريا الديموقراطية»: هل يمكن أن تقبل «قسد» ببساطة وقف القتال والانسحاب والتخلي عن سلاحها الثقيل لمصلحة «العدو» التركي؟ هل تستمر في التنسيق مع دمشق وموسكو، أم تتخلى عن ذلك وتستأنف التنسيق فقط مع واشنطن، أم تنسق في الاتجاهين؟وهل يقبل محور دمشق أي ازدواجية محتملة من «قسد»؟ والجدير ذكره أن مهلة خمسة أيام قد لا تكون كافية لإنهاء الانسحاب الكردي، وقد تحمل مفاجآت في عدم التنفيذ، وبالتالي استئناف تركيا عمليتها العسكرية.
في جميع الأحوال، فإن الوضع في شرقي الفرات لن يتضح نهائياً قبل الاجتماع المقرر يوم الثلاثاء بين إردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبالمناسبة، هو يصادف اليوم الأخير من مهلة الخمسة أيام، وهذا ليس مصادفة، إذ عندها سيكون أي تفاهم بين إردوغان وبوتين قائماً على أرضية ميدانية وسياسية واضحة في ضوء مآل تطبيق الاتفاق التركي ــــ الأميركي.

رسالة ترامب
انعقد اللقاء وسط سخط تركي كامل مما نشر من نص لرسالة كان قد بعث بها ترامب إلى إردوغان في التاسع من الشهر الجاري، إلى درجة أنه حتى رئيس الحكومة السابق أحمد داود أوغلو، الخصم الجديد لإردوغان، دعا تركيا، في حال عدم اعتذار ترامب عن الرسالة، إلى إلغاء زيارة بنس والوفد المرافق لأنقرة، وإلغاء زيارة إردوغان لواشنطن المقررة الشهر المقبل. بالطبع، داود أوغلو يريد إحراج إردوغان وإضعافه، لكن عدم نشر الرسالة في حينها، أي قبل 8 أيام، يثير أيضاً تساؤلات. أما الكاتب حسن جمال، فيصف الرسالة بأنها «إهانة كاملة» لإردوغان.
تذكّر رسالة ترامب بما عُرف في التاريخ التركي الحديث بـ«رسالة جونسون»


طلب ترامب من إردوغان في الرسالة أن يلتقي بعبدي مظلوم، قائد «قوات سوريا الديموقراطية»، الذي قال له إنه مستعد لتقديم تنازلات لتركيا «غير مسبوقة». وإذ دعا ترامب إردوغان إلى وقف العملية، خاطبه قائلاً: «لا تكن حادّاً ولا تكن أحمقَ، وإذا فعلت شيئاً حسناً فسيذكرك التاريخ بالحسنى وإلا سيذكرك على أنك شيطان». لم يردّ إردوغان بعد على الرسالة، لكن مصادر في قصر الرئاسة قالت إن الرسالة «قد رُميت في سلة المهملات». وتقول هذه المصادر إن إردوغان رد على الرسالة بقرار بدء العملية العسكرية في سوريا، وإن مجرد تسريبها كان قراراً أميركياً للردّ على إردوغان بأن واشنطن لم تعط الضوء الأخضر لبدء العملية.
تذكّر رسالة ترامب بما عرف في التاريخ التركي الحديث بـ«رسالة جونسون»، والتي أثارت أزمة بين تركيا والولايات المتحدة في عام 1964، أعقبها تحول نسبي في سياسة تركيا الخارجية وانفتاحها على الاتحاد السوفياتي، مع فارق أن رئيس الحكومة التركية آنذاك، عصمت إينونو، ردّ على رسالة جونسون، فيما لم يردّ إردوغان برسالة مضادة رسمية.

رسالة جونسون
مع استمرار الصدامات والتوترات بين القبارصة الأتراك واليونانيين، تداعت تركيا واليونان وإنكلترا وممثلو الطائفتين في قبرص إلى اجتماع لندن الثالث بين 15 و31 كانون الثاني 1964، بعد مطالبة الرئيس القبرصي مكاريوس بتعديل الدستور، بما يضعف الوجود التركي في قبرص، كما دور تركيا هناك. انتهى مؤتمر لندن إلى الفشل، ورفض حتى اقتراح تشكيل قوة أطلسية، فكان تدخل مجلس الأمن الدولي وصدور قرار بتشكيل قوة طوارئ دولية للفصل بين المتنازعين في 4 آذار 1964. لكن التوتر والاشتباك استمرا في الجزيرة. وأبلغ وزير خارجية تركيا، فريدون جمال أركين، في 5 حزيران، أن تركيا ستتدخل بمفردها في 7 حزيران.
بعد تهديد تركيا بالتدخل في قبرص في 5 حزيران، وجّه الرئيس الأميركي، ليندون جونسون، رسالة تحذير قاسية اللهجة إلى رئيس الحكومة التركية، عصمت إينونو، كانت الندبة الأولى التي تصيب العلاقات التركية ــــ الأميركية بعد الحرب العالمية الأولى والتطور المتسارع في العلاقات بين البلدين. وقد استبق جونسون الرسالة بإيفاد قائد قوات «حلف شمالي الأطلسي» ليمنتزر إلى أنقرة، والاجتماع في 5 حزيران مع إينونو ورئيس الأركان التركي جودت صوناي. وفي اليوم نفسه، سلّم السفير الأميركي في أنقرة، ريمون هاير، رسالة جونسون إلى إينونو بحضور وزير الخارجية فريدون أركين.
وقد أشار جونسون في رسالته إلى أن تركيا يجب أن تتشاور مع الولايات المتحدة قبل أي محاولة تدخل في قبرص يمكن أن تجرّ إلى حرب بين تركيا واليونان، وهو أمر لا يمكن لـ«الأطلسي» أن يقبله. وفي حال تدخل تركيا في قبرص، فإن الاتحاد السوفياتي يمكن أن يتدخل في تركيا، وفي هذه الحالة فإن «الأطلسي» لن يتدخل دفاعاً عن تركيا. وهدّد جونسون تركيا بأن الأمم المتحدة قد تبدي رداً حاداً عليها، منبهاً إياها إلى أن الأسلحة الأميركية، وفقاً للمادة الرابعة من اتفاقية 1947 العسكرية مع تركيا، لا يمكن استخدامها في قبرص، وأن مجلس الأمن الدولي قد يجتمع لاتخاذ إجراءات. وفي النهاية يدعو جونسون في رسالته عصمت إينونو للمجيء إلى واشنطن للقائه.
في 13 حزيران، أجاب إينونو على رسالة جونسون، وأبلغه أن الرسالة بالشكل والمضمون مخيبة للآمال، وخلقت إحباطاً لدى الرأي العام التركي، وتعكس خلافات مهمة في وجهات النظر. ورفض إينونو اتهام تركيا بأنها لا تتشاور مع حلفائها، ومنهم أميركا، وأن على دول الأطلسي أن تساعد أي عضو فيها في حال تعرضه للاعتداء، أما الكلام عن عدم مساعدة تركيا في حال تعرضها لاعتداء سوفياتي، يواصل إينونو، فمثير للقلق والتأسف الكبير، ولا يعود من معنى لوجود الحلف أساساً.
لم تُنشر رسالة جونسون كاملة ولا جواب إينونو إلا في عام 1966 في صحيفة «حرييت» (13 كانون الثاني). ذهب إينونو إلى واشنطن في 21 حزيران 1964 من دون نتائج مهمة. لكن رسالة جونسون كانت بداية مرحلة جديدة نسبياً في السياسة الخارجية التركية. بدأت تركيا منذ تلك الرسالة العمل على سياسات جديدة تساعد على التوازن بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، وهو ما عكسته زيارة وزير الخارجية التركي، فريدون جمال أركين، لموسكو في 30 تشرين الأول 1964، في أول زيارة لوزير خارجية تركي لموسكو منذ 25 سنة، أي بعد الزيارة الشهيرة لشكري سراج أوغلو عام 1939، والتي كانت أول زيارة لوزير خارجية تركي للاتحاد السوفياتي. وتبعت ذلك في كانون الثاني 1965 زيارة رئيس مجلس السوفيات الأعلى نيقولاي بودغورني، وفي أيار زيارة وزير الخارجية السوفياتي أندريه غروميكو لتركيا. ومن ثم كانت زيارة لرئيس الوزراء التركي، سعاد خيري أورغوبلي، لموسكو في آب. أيضاً، عملت تركيا على الاهتمام أكثر بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي على حساب العلاقة مع «الأطلسي». كما بدأت تعيد النظر بمواقفها على الساحة الدولية، بما في ذلك معارضتها التدخل العسكري الأميركي في فييتنام.

«نبع السلام»
على صعيد آخر، لا تزال عملية «نبع السلام» تحظى بمتابعة كاملة من الصحافة التركية. رئيس تحرير صحيفة «حرييت السابق» سادات إرغين، عرض لمحصلة 8 أيام من العملية العسكرية، معدّداً 10 نتائج حتى الآن:
1- إنهاء الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا
2- انسحاب الولايات المتحدة من سوريا
3-عودة النظام السوري إلى حدود تركيا وشرقي الفرات
4- إنهاء المرحلة الأولى من «المنطقة الآمنة» بنجاح
5- قيام روسيا بدور الناظم للتحركات بين سوريا وتركيا وقوات «قسد»
6- خروج إيران رابحة بسبب انسحاب الأميركيين وإنهاء الحكم الذاتي للأكراد
7- إسرائيل من بين الخاسرين مع زيادة النفوذ الإيراني والنظام السوري
8- تعرّض علاقات تركيا الخارجية لضرر كبير
9- تعرّض العلاقات التركية ــــ الأميركية لأزمة كبيرة
10- اضطرار تركيا إلى فتح قنوات تواصل مع دمشق، وهو أمر يبدو أنه أصبح حتميّاً