بمجموعة قرارات رئاسية، رسّخ عبد الفتاح السيسي ملكيته لسيناء. ملكيةٌ لا يشاركه فيها إلا الجيش الذي انتزع مساحات واسعة لمشروعاته المختلفة، في وقت تمهّد فيه تلك القرارات لمشروع «نيوم» الذي أعلنه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، أواخر 2017، ويتضمن استثمارات في الجانب المصري، وتحديداً أراضي سيناء المطلّة على البحر الأحمر. القصة بدأت منذ تخلّي السيسي عن جزيرتَي تيران وصنافير للسعودية، بموجب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية في عام 2016. منذ ذلك العام، وهو ينفذ خطة منهجية للسيطرة على أراضي سيناء بالكامل، يجري العمل عليها بتأنٍّ وتدرّج بسبب اعتراضات الأهالي. هكذا، وفي وقت قصير، صار التصرف في جميع أراضي سيناء بقرار من السيسي فقط، وبختم شعار الجمهورية على أوراق خاصة بالتصرف في أراضيها وفق القرار المعمّم أخيراً من وزارة العدل على إدارة الشهر العقاري المسؤولة عن توثيق الأراضي والعقارات في البلاد.وكانت أراضي سيناء تخضع لقرارات متعاقبة من الرؤساء في شأن تقييد التملّك فيها والاكتفاء بحق الانتفاع، لكن قبل سنوات صدر قانون أتاح لأهاليها التملك وفق ضوابط مشدّدة. هذا القانون لم يكن مناسباً في نظر السيسي، الذي اعتمد قراراً بالامتناع نهائياً عن اتّخاذ أيّ إجراءات في الأراضي من دون توقيعه الشخصي، في سابقة هي الأولى من نوعها. القرار الأخير، كما تقول مصادر مطلعة، لم يكن سوى جزء من حزمة قرارات طُبّقت تباعاً، بداية من التوسع في تخصيص أراضٍ للجيش في مواقع متميّزة ومطلّة على شاطئ البحر الأحمر مباشرة، وصولاً إلى تخصيص 47 جزيرة كمناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية، وهي المناطق التي نُقلت تبعيتها وعائدها المالي إلى الجيش بدلاً من وزارة البيئة، فضلاً عن قرار آخر بمنح الجيش سلطة تحديد أيّ أراضٍ يحتاج إليها من المدنيين لضمّها إلى ملكيته!
يشرعن الجيش سيطرته على الأراضي بدواعٍ أمنية لكنّ الهدف استثماري


في هذه القرارات، ثمّة ما يمكن تصنيفه في إطار المصلحة العامة، مثل تخصيص بعض المواقع للتأمين، لكن غالبيتها هدفها الاستثمار الخاص، ولاسيما تخصيص الأراضي المحيطة بميناء العريش لتكون تابعة للجيش، علماً أن الأخير تُعفى جميع ممتلكاته من الضرائب بموجب التعديلات التي أقرّها السيسي نفسه على قانون الضرائب بعد أشهر من وصوله إلى السلطة، فيما أُسندت مَهمة إدارة الميناء وتجهيزه إلى «هيئة قناة السويس». حتى المناطق المُخلاة جبراً من مدينة رفح المصرية، والتي تم تدميرها لإنشاء منطقة عازلة على الحدود، بات يمكن استغلالها في المستقبل القريب تجارياً، مقابل تهجير سكانها إلى مناطق أخرى غالبيتها خارج سيناء! ولا يُنسى أيضاً تهجير عشرات الأسر القبطية من العريش من دون إعادتهم حتى الآن، على رغم مرور نحو عامين على ترحيلهم. وقد تبعت ذلك كلّه إجراءات تعسّفية ضدّ السيناويين وصلت إلى درجة حرمان أبنائهم، خاصة في الشمال، فرصة التعليم، مع تعطيل الدراسة لمدد طويلة. ففي مدينة رفح، لم تعد هناك حياة، بل مجرد أنقاض للمنازل يُمنع المواطنون من الاقتراب منها. أما في الشيخ زويد، فالأوضاع أسوأ، ومقوّمات الحياة تتضاءل كل يوم، والأهالي يكافحون ليجدوا قوت يومهم وسط ظروف قاسية للغاية. وفي العريش، يواجه الأهالي شبح التهجير القسري المنصوص على تجريمه في الدستور.
الجيش، الذي ينفذ قرارات الرئيس بكل حماسة، يبلّغ الأهالي بحاجته إلى إخلاء بعض المنازل والحصول على أراضٍ من أجل تأمين المدينة التي لا تزال تحت حظر التجوال يومياً منذ أكثر من عامين، لكن الأراضي التي شُرعن إخلاؤها بموجب القرارات الرئاسية هي نفسها التي باتت تحت قبضة الجيش من دون أيّ وعود بإعادتها إليهم بعد انتهاء العمليات. وفي المقابل، لم ينفذ الرئيس أيّاً من وعوده لأهالي شمالي سيناء، فلا مدينة رفح الجديدة التي وعد بإنشائها بعيداً عن قطاع غزة جرى العمل فيها، ولا الأهالي تم تعويضهم، ولا الإرهاب تم القضاء عليه في ثلاثة أشهر مثلما حُكي قبل عامين. وفي الجنوب لا حياة إلا في المدن السياحية. صحيح أن ثمّة مشاريع طرق يجري تنفيذها ومن بينها أنفاق قناة السويس الجديدة التي بدأ أحدها بالعمل تجريبياً منذ أسابيع في الإسماعيلية، لكن معدلات التنفيذ في مشاريع الإسكان أقلّ بكثير، وكذلك مخطّطات التطوير المعلنة سنوياً.


في النتيجة، يبدو سعي السيسي إلى تملّك الأراضي المطلّة على البحر الأحمر وإدارتها بالطريقة التي يراها مناسبة مرتبطاً بصورة رئيسَة برغبته في الاستثمار عن طريق الجيش. فعلى الضفة الأخرى من البحر الأحمر اعتمد قرارات مماثلة في منطقة الزعفرانة وغيرها من المناطق المطلّة على البحر مباشرة، فيما ينفذ الجيش عدداً من المشروعات المماثلة في مقدمتها مدينة الجلالة التي تتضمن فندقاً وحمام سباحة و«أكوا بارك». إذاً، ها هي شهوة الامتلاك والسيطرة التي يتعامل بها السيسي مع أراضي الدولة المصرية عامّة يطبّقها بشراسة في سيناء، على نحو يعكس فلسفة الفرعون المصري الذي يرى نفسه صاحب البلد، وليس الحاكم الذي يُفترض أنه جاء بالانتخاب عبر صناديق الاقتراع، كما يقول السيناويون الذين لا يستمع أحد إلى أوجاعهم، من المسؤولين أو الإعلاميين، وحتى في اللقاء الأخير مع الرئيس لم يجدوا غير الأمر بالجلوس والسكوت!