عبد الرحمن جاسمفي ذلك البيت البسيط التأثيث، في صالون المنزل، زينت صورة للسيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، صدره بعد حرب 2006. المنزل يملكه أبو وسام، من قرية الكويكات في شمال فلسطين. صفته الأساسية أنه عائدٌ يسكن مخيم برج البراجنة في العاصمة اللبنانية بيروت. الرجل لا يمكن اعتباره إسلامياً أبداً، فبناته «حاسرات» الرأس (أي لا يرتدين غطاء الرأس/ الحجاب)، وهو قلما يتحدث بالقرآن والحديث النبوي الشريف. لكنه في الوقت نفسه لا يعدّ شيوعياً أو كافراً أو ملحداً. أبو وسام هو مصداق الحالة الشعبية في المخيم. هو شخصٌ عاديٌ، يمكن أن تلتقيه يومياً من دون أن تنتبه لوجوده. زينت صورة السيد منزله مذ ذاك الوقت، لا لسبب إلا لأنه يعتبر أن الرجل (أي السيد حسن) خليفة عبد الناصر زعيماً للعرب! لم يكن أبو وسام يهتم أبداً بكون السيد حسن شيعياً، هو لم يعرف ذلك _ أصلاً _ إلا أخيراً، حينما زاره بعض أصدقائه، وسألوه ضاحكين: لماذا تضع صورة قائدٍ حزبي في صالون منزلك؟

هل تقبض مالاً من حزب الله؟ أبو وسام، الذي يعمل سباكاً (سنكري بالعامية)، كان يضحك مجيباً: وليش بدهن يعطوني؟ الله يغنيني عن كل البشر، أنا بشتغل وبطلع اللي فيه النصيب، بس الزلمة «رجال». كان يشدد على الكلمة التي تعني عنده «الرجولة» بكل معانيها، الرجولة بالنسبة إلى الفلسطيني العائد، كما أيّ عربي، هي الانتصار على إسرائيل، وما حدث بالنسبة إليه، في عقله المباشر هو أن «حزب الله» وقائده انتصرا على الإسرائيلي، صمدوا حينما لم يكن هناك من صمود. لماذا علّق الصورة؟ ذلك السؤال الذي لم يجب عنه قَطّ، لكنه يعرف بأنه فعل ذلك لأنه اعتبر أنه شريكٌ في الانتصار، وأن «السيد» قائده هو أيضاً، فهو رفض أن يترك المخيم خلال القصف الإسرائيلي المتواصل في 2006، لكن بقاءه كان «دفاعياً» لم يكن يفعل شيئاً سوى الصمود، بينما بقاء السيد كان قيادياً، ولأن الفلسطيني بلا قادة، كان السيد هو «القائد» المنتظر المرجوّ بشدة، فلماذا لا يعلّق تلك الصورة في صدر المنزل؟
شو يا حاج أبو وسام؟ ليش معلق صورة هادا الكافر عندك؟ مش حرام؟
مين الكافر «ولى» أحمد؟
هادا حسن نصر اللات!
ولى أحمد: بكسّر وجهك إذا بتحكي هيك مرة تانية، انقلع من هون ينعن (يلعن) منظرك، والله لأخبر أبوك، لو عرف يربيك ما طلعت قليل أدب!
هادا كافر يا حاج! معقول تعلق له صوره بصالونك؟
ولك اخرس ولى اخرس آه! واطلع برا وإذا فتحت تمك والله بعد لقطّع «الصرماية» على راسك والله!
هذا كان أول الشتاء المر. كان أحمد واحداً من أبناء «الحركات الإسلامية» التي انتشرت فجأة في المخيم، وبات حديثها كلّها بلغةٍ جديدة، يحاول الحاج أبو وسام أن يبتعد عنها، أن لا يسمع ما يقولونه. سمع أحد الشيوخ في صلاة الجمعة يتحدث عن «الروافض»، لم يكن يعرف معنى الكلمة، كما غيره، لكن الشيخ بسّط الكلمة بمعنى أنهم «الشيعة»، فسأله: لكن كل من في المخيم يعملون ويتعاملون يومياً مع جيرانهم من الشيعة، وهذا الحديث لا يصح، وعلى الشيخ أن يدعو الناس إلى الوحدة، لا إلى التفرقة. ساعتها نظر إليه الشيخ بحدة وأخبره بأن لا يتعدى حدوده، وأن ما يحدثهم عنه هو الصواب، ولا يحق لهم النقاش فيه.
حاج، عم بفكر أشيل صورة السيد حسن من الصالون.
آه؟ وليش بدك تشيليها يا إم وسام؟ شو في؟
بتعرف تبعون جمعية «(..)»، بتعرفهن هيدول اللي بيوزعوا خبز بالمخيم؟ لما رحت آخد، قالولي مش انتِ اللي جوزك بيحب «الرافضة»، فخليهن هن يعطوكي خبز.
مين اللي قالك هيك؟ ابن مين؟
يا حاج، مش مهم ابن مين، يعني انت بدك تتخانق مع كل الناس؟
هلق هدول صاروا أشرف من السيد؟ ينعنهن كلهن. ما بدي توخدي من حدا شي! ما تروحي لعندهن خلص!
بس يا حاج.. مش..
(مقاطعاً) خلص خلص اعملي اللي بدك ياه!
لم يقتنع أبو وسام بإنزال الصورة، جلس قبالة الصورة في صالونه، نظر إليها مطوّلاً. فالسيد لم يعد رجلاً كي يصار إلى نزعه أو إنزال صورته. صار صديقاً، رمزاً، عادةً، دليلاً. السيد صار أشبه بمنارة تدل على فلسطين. مات جميع قادة الشعب الفلسطيني، الختيار (أبو عمار) رحل، الحكيم (جورج حبش) رحل، وديع حداد رحل، من بقي؟ هو حتى لا يعرف أسماء من يعتبرون أنفسهم قادةً اليوم، ابتسم للفكرة، أصلاً من في المخيم يعرفهم أصلاً؟ فهم لا يسكنون المخيم، ولا يعرفونه ولا يعرفون مشاكله، فلماذا يعرفهم أحد؟ ظل ينظر للصورة أكثر ولا يعرف ماذا يفعله.
ياخوي مش رح أشيل الصورة.
يا إسماعيل (اسم أبو وسام) أنا أخوك الكبير وعم بقولك بلاها هالوجعة الراس! خلصنا يا أخي!! صار الشيخ حاكي معي شي 3 مرات عشان الموضوع! خلصنا يا أخي!! خلصنا!
يا خوي هلق الشيخ حل كل مشاكل المخيم والصورة علقت «بزوره»؟
يا إسماعيل شو مالك؟ يعني أنت بدك «تجر مشكل» (تعملنا مشاكل) يعني!
هلق أنا عم بعمل مشاكل؟ شو عم بعمل يعني؟ الصورة مخربة عليه لهالشيخ؟ بعدين مين سواه شيخ لهادا؟ وين درس لصار شيخ أصلاً؟ مش هو كان دهان بعدين اختفى شي سنتين بطرابلس ورجعلنا عامل شيخ؟
رح تشيلها للصورة ولا لأ؟ يا خوي، اتذكر انت بالآخر عندك بنات وبدك تجوزهن، بتعرف هيدول الناس لما يشيعوا بالمخيم إنو انت كافر شو بيأثروا عليهن!
بناتي؟ والله بكسر حناكه اللي بيحكي عليهن!!
يا خوي، لما بتشتد العاصفة، ما بيأثر إذا حنيت راسك للريح!
عبث. الرجل حمل صورة السيد، كما لو أنه يحمل طفلاً، نظر إليها بحنوٍّ كبير، غالب الدمعة التي بدأت تتجمع في حدقتيه، نظر إليها كثيراً، ثم حملها، أنزلها قليلاً، جلس معها على الكنبة.
هذا اختياري، لكن بناتي لا يجب أن يدفعن عني. حمل الصورة وأخذها إلى غرفة نومه، حمل المطرقة ودق مسماراً جديداً في الحائط، علّق صورة السيّد بجوار صورته وصورة أم وسام في غرفة النوم. نظر إلى السيد بنفس الحنو: ما تزعل يا سيّد، والله بعرف إنو هادا أضعف الإيمان. بس رب العالمين عارف. و«يا كنيسة الرب اللي بالقلب بالقلب»!



تتبعثر الصور في المخيم، تتناثر، ذاكرة الحوائط تشكّل خزاناً لكل ما ومن مر هناك، ينطبق الأمر ذاته على قلب المنازل. تحفظ البيوت الوجوه بسرعة، ولم يكن غريباً أبداً بعد تحرير الجنوب عام 2000، والصمود الأسطوري لحزب الله في عدوان 2006 أن تزيّن صورة الأمين العام لحزب الله جدران منازل كثيرة في المخيم، وهذه قصة واحدةٌ منها. صورةٌ واحدة تؤرخ للعلاقة ما بين قلوب الناس التي لا يمكنها أن تكذب، وبين صورة الزعيم «اللي بتضلّها صامدة لحالها»، رغم كل ما يحدث!