يبدو أن الانسحاب الأميركي من سوريا أفاد جميع الجهات، بما فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لأسباب انتخابية، فيما يبقى الأكراد الحلقة الأضعف و«كبش المحرقة» في المعادلة السورية بعدما كادوا يكونون «بيضة القبان». وهو ما عكسته الاتفاقية التي وصفها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بـ«التاريخية»، والتي توصلت إليها قمة أمس الثلاثاء بينه وبين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سوتشي، واتخذت اسم «اتفاقية سوتشي».
ذهب إردوغان إلى سوتشي للقاء بوتين متسلحاً بمجموعة من أوراق القوة(أ ف ب )

الاتفاقية المكونة من 10 بنود، والتي شملت تفاصيل متعددة تتعلق بالوضع الميداني والعسكري في مناطق التوتر التي كانت توجد فيها «قوات الحماية الكردية»، بدت اتفاقية لتصفية ما تبقى من حالة كردية في سوريا بعد اتفاقية أنقرة يوم الخميس الماضي في 17 تشرين الأول/ أكتوبر بين أنقرة وواشنطن، كما أنها فتحت الباب أمام ترسيخ تداعيات عملية «نبع السلام» التركية. وإذا تذكرنا أن اتفاقية أضنة وُقّعت في 20 تشرين الأول/ أكتوبر 1998، وقضت بإخراج عبد الله أوجلان من سوريا والتعاون لملاحقة حزب «العمال الكردستاني»، فسوف يدخل شهر تشرين الأول في التاريخ الكردي الحديث على أنه شهر التخلي عن الأكراد والتضحية بتطلعاتهم. وقد وصف محللون عسكريون أتراك «اتفاقية سوتشي» بأنها مهمة جداً للأمن التركي وما كانت تطالب به تركيا، علماً بأن الاتفاقية أهملت كلياً الإشارة إلى الوضع في إدلب التي ذكر إردوغان أنه وبوتين اتفقا على المحافظة على «الوضع القائم» فيها، لكن كانت لافتة إشارتها إلى اتفاقية أضنة حيث ستعمل روسيا على تسهيل تطبيقها.
سيبدأ تنفيذ الاتفاقية خلال 150 ساعة، بدءاً من منتصف ظهر اليوم الأربعاء


النقطة الأساسية أن «قوات الحماية الكردية» لن يكون لها وجود على امتداد الحدود، حيث الجيش التركي أو الجيش السوري وبعمق 32 كلم، على أن تسيّر تركيا وروسيا دوريات مشتركة بعمق 10 كلم. ومن ضمن المناطق التي يجب أن تنسحب منها القوات الكردية: منبج وتل رفعت. وقد ثبتت الاتفاقية الوضع الحالي في المنطقة التي تحتلّها تركيا من تل أبيض إلى رأس العين. ولا شك في أنه في الأيام، وربما الساعات المقبلة، ستتضح التطبيقات الميدانية العملية للاتفاقية، والتي سيبدأ تنفيذها خلال 150 ساعة، بدءاً من منتصف ظهر اليوم الأربعاء. المؤتمر الصحافي للرئيسين، والذي سبق الإعلان عن الاتفاقية، أظهر تفهماً روسياً لعملية «نبع السلام»، وتأييد روسيا لوصف «قوات الحماية الكردية» بـ«الإرهابية»، وإن دعت إلى حماية حقوق الشعب الكردي في سوريا. وقال بوتين إن البلدين سوف يعتمدان العملة الوطنية فيهما للتبادل التجاري. أما إردوغان فأشار إلى أن المسألة السورية كانت في أساس المحادثات مع بوتين. ومرّ سريعاً على التطورات في إدلب. وإذ أكد أن تركيا لا تطمع بأي أرض في سوريا، ذكّر بالعمل على عودة مليون ونصف مليون لاجئ إلى سوريا. لكن الأهم في الاجتماع أنه خرج باتفاقية وصفها إردوغان بـ«التاريخية».

اتفاقية سوتشي
البنود الـ 10 للاتفاقية:
1- يؤيد الطرفان الوحدة السياسية والجغرافية لسوريا كما حماية الأمن القومي التركي.
2- محاربة الإرهاب بكل أشكاله والتنظيمات الانفصالية في سوريا.
3- المحافظة على الوضع القائم بين رأس العين وتل أبيض بعمق 32 كلم في إطار عملية «نبع السلام».
4- يؤيد الطرفان اتفاقية أضنة وستعمل روسيا (دون ذكر تركيا) على تسهيل تطبيق الاتفاقية في ضوء الظروف الحالية.
5- إخراج «قوات الحماية الكردية» (وردت حرفياً بالاسم) من الأراضي السورية المحاذية لتركيا والتي تقع خارج منطقة «نبع السلام» وبعمق 30 كلم من جانب الجنود الروس وقوات حرس الحدود السورية، على أن تبدأ عملية الإخراج من منتصف الأربعاء في 23 تشرين الأول وتنتهي بعد 150 ساعة. وفي الوقت نفسه، تسيير دوريات تركية ــــ روسية مشتركة في المناطق الواقعة إلى الغرب والشرق من منطقة عملية «نبع السلام»، باستثناء مدينة (وليس منطقة) القامشلي وبعمق 10 كلم.
6- إخراج العناصر «الإرهابية» (أي الأكراد) من منبج وتل رفعت مع أسلحتهم.
7- اتخاذ الطرفين التدابير اللازمة لمنع تسلل «الإرهابيين» (دون تحديد من أين وإلى أين).
8- العمل المشترك لتسهيل عودة اللاجئين بصورة آمنة وطوعية.
9- تشكيل آلية مراقبة وإشراف لضمان تطبيق هذه الاتفاقية.
10- تدعم أطراف أستانا مساعي إيجاد حل سياسي في سوريا وتدعم مهمات اللجنة الدستورية.

أوراق القوة
ذهب الرئيس التركي إلى سوتشي متسلحاً بمجموعة من أوراق القوة لم يكن يملكها قبل أسبوع واحد فقط:
1- الاتفاق مع واشنطن حول إقامة منطقة آمنة ودخول الجيش التركي إلى شمال سوريا من دون اعتراض أميركي، الأمر الذي يساهم في تحسين العلاقات التركية ــــ الأميركية.
2- احتلال الجيش التركي منطقة بعرض 120 كلم على الأقل بين رأس العين وتل أبيض وبعمق متحرك يقارب الـ 30 كلم، وتثبيته موطئ قدم في شرقي الفرات للمرة الأولى منذ 100 عام بعدما كان يطالب بذلك منذ بداية الأزمة السورية عام 2011.
3- التمهيد لتوسيع منطقة الاحتلال، وهو هدف أساسي للتدخل العسكري التركي ليصل إلى عرض 444 كلم وعمق 32 كلم.
4- انسحاب «قوات حماية الشعب» الكردية من تل أبيض ورأس العين طواعية تارة، وبالتراجع العسكري تارة أخرى.
5- استعادة إردوغان شعبية كان قد افتقدها في الداخل التركي وفقاً لبعض استطلاعات الرأي.
6- اختفاء المعارضة للعملية العسكرية، بل تأييدها من جانب المعارضة، ولا سيما زعيم حزب «الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو، الذي جلّ ما يطالب به هو أن يفتح إردوغان حواراً مع النظام في دمشق.
في المقابل، فإن بوتين استقبل إردوغان وقد امتلك المزيد من أوراق القوة في سوريا:
1- شكّل الانسحاب الأميركي ربحاً صافياً لروسيا باعتبار أن الوجود العسكري الأميركي كان عنصر توازن وردع لروسيا في سوريا، وانسحاب واشنطن أعطى روسيا حرية حركة تكاد تكون مطلقة في الساحة السورية ومكّنها من ممارسة تأثير متعدد الاتجاهات.
2- الانسحاب الأميركي، ومن ثم التدخل العسكري التركي، أرغم «قوات حماية الشعب» الكردية على إبرام تفاهمات برعاية روسية مع دمشق أفسحت المجال أمام انتشار الجيش السوري في مناطق كانت خاضعة للأكراد، مثل منبج وعين العرب/ كوباني والرقة والطبقة ومناطق أخرى شرقي الفرات ووصل للمرة الأولى منذ سنوات إلى منطقة حدودية مع تركيا هي عين العرب/ كوباني. أي أن روسيا أعادت صلتها ونفوذها، ولو نسبياً، على الأكراد.
3- بذلك أصبحت روسيا الطرف الوحيد في سوريا الذي له صلات وعلاقات مع كل الأطراف الرئيسة الأخرى، مثل: تركيا والدولة السورية والأكراد، فضلاً عن الولايات المتحدة.
بأوراق القوة المتبادلة هذه، اجتمع إردوغان مع ترامب في سوتشي. إردوغان يذهب منتصراً ومستقوياً بما حققه، وخصوصاً مع واشنطن، لكنه يريد إكمال انتصاره من خلال تثبيت تطلّعه إلى السيطرة الكاملة على الشريط الحدودي داخل سوريا المقابل لتركيا من تل أبيض إلى الحدود العراقية ليضمّ ذلك إلى المنطقة من جرابلس إلى إدلب. لكنّ خرقاً لهذا الشريط تحقق قبل أسبوع من خلال استعادة الدولة السورية السيطرة على عين العرب/ كوباني، والتي شكلت ضربة معنوية ومادية كبيرة لتطلعات إردوغان. وكما كان يريد منع إقامة كوريدور كردي داخل سوريا، فها هو يتلقى ضربة جزئية، لكنها ذات دلالة كبيرة، بمنع الجيش السوري تركيا من إقامة شريط متصل، بقطعه في نقطة عين العرب/ كوباني.
لم تمانع روسيا من إقامة منطقة آمنة تحت الاحتلال التركي في سوريا، وبوتين أعلن لدى التوصل إلى اتفاق 7 آب بين أنقرة وواشنطن تأييده بصورة مفاجئة للمنطقة الآمنة. لذا، فإن تأييد بوتين اليوم لهذه المنطقة «تحصيل حاصل». وهو ما عكسته اتفاقية سوتشي. نجح بوتين في تهدئة مخاوف تركيا بتلبيتها بالكامل. لكن النقطة الأكثر أهمية وحساسية هي مدى نجاحه في إقناع إردوغان بضروة بدء التواصل مع دمشق، ليس فقط على الصعيد الأمني والاستخباري، وهذا قائم من حيث المبدأ، بل بدء التواصل السياسي مع الرئيس السوري بشار الأسد.
من الواضح أن إردوغان لا تزال تتحكّم فيه «عقدة الأسد»، ولا يريد مثل هذا الاجتماع الذي سيعتبره هزيمة له. وكم كانت معبّرة وذات دلالة رسالة الرئيس بشار الأسد إلى إردوغان عندما زار، قبل ساعات قليلة من قمة سوتشي، الخطوط الأمامية في إدلب، معوّلاً أهمية كبرى على تحريرها، وواصفاً الرئيس التركي بأنه لص سرق المعامل والنفط والقمح، والآن يسرق الأرض. ولا شك في أن بوتين كان ولا يزال محرجاً بالنسبة إلى إدلب، حيث أرخى العنان لإردوغان بالمهل المفتوحة والتنصل من تطبيق الاتفاقات، فكانت زيارة الأسد الميدانية عامل دفع للرئيس الروسي للضغط هذه المرة على نظيره التركي. فهل تكون الإشارة إلى اتفاقية أضنة، في نص توافق عليه تركيا للمرة الأولى بهذا الوضوح، خطوة على طريق بدء إيجاد الحل النهائي في سوريا بعدما انحصرت الأطراف المؤثرة بكلّ من روسيا وتركيا وسوريا؟