أصدرت رئاسة الحكومة التونسية، بعد ظهر أمس، بياناً أعلنت فيه إعفاء وزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ووزير الخارجية خميس الجهيناوي، وكاتب الدولة للدبلوماسية الاقتصادية حاتم الفرجاني، وتكليف أعضاء آخرين في الحكومة بتسيير شؤون الوزارتين مؤقتاً. جاء هذا القرار بالتشاور مع رئيس الجمهورية الجديد، قيس سعيّد، الذي يكفل له الدستور أدواراً مهمة في تحديد وزراء الخارجية والدفاع وسياساتهما. لم يكن الأمر مفاجئاً في حالة وزير الدفاع. عقب وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، أعلن الزبيدي ترشحه لمنصب رئاسة الجمهورية، ودخل عملياً في منافسة ضدّ رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، على إرث قائد السبسي (راجع «الأخبار»، العدد 3833). خلال تلك الفترة، لم يُخفِ الزبيدي عداءه تجاه الشاهد، إلى درجة تمنّعه عن تقديم استقالته له مباشرة، وتفضيله إرسالها إلى رئيس الجمهورية المؤقت، محمد الناصر، على رغم أن النظر في الاستقالة من صلاحيات مجلس الوزراء وليس رئاسة الجمهورية. من جهته، لم يُرِد الشاهد تظهير الصراع مع الزبيدي، إذ إنه لم يتحدث عنه سلبياً في العلن وقرّر تجاهله. أما في خصوص الاستقالة، فقال إنها لم تصله، وهي بالتالي غير موجودة. خلال فترة الحملة الانتخابية للرئاسيات، أثار الزبيدي جدلاً في الشارع عبر تصريح كشف فيه أنه فكّر في إحاطة البرلمان بالدبابات عقب انتشار شائعة عن وفاة قائد السبسي (قبل وفاته فعلياً بأسابيع)، لظنّه وجود نيات لتنفيذ انقلاب عليه عبر إزاحته بقرار برلماني. أضرّ ذلك التصريح، وتصريحات أخرى، بنتائج الزبيدي في الرئاسيات، حيث حلّ في المرتبة الرابعة. لكن ترشّح الزبيدي أضرّ أيضاً بالشاهد، الذي حلّ خامساً عبر مقاسمته القاعدة الانتخابية نفسها.
على غرار الزبيدي، ليس الجهيناوي شخصيّة سياسيّة كاريزيميّة أو ذات حضور شعبي


أما في ما يخصّ وزير الخارجية، فجاءت إقالته مفاجِئة ومن دون ممهّدات كثيرة. دخل خميس الجهيناوي السياسة عبر مساره المهني التكنوقراطي، فقد عمل طوال حياته في وزارة الخارجية. شغل الرجل مناصب دبلوماسية مهمة خلال فترة حكم زين العابدين بن علي، من بينها تولّي سفارات تونس في لندن وروسيا، لكن أولى مهماته الكبرى كانت عام 1996 حين عُيّن مديراً لمكتب العلاقات التونسية ــــ الإسرائيلية في تل أبيب لمدة عامين، قُطعت بعدهما العلاقة رسمياً. حظي الجهيناوي بثقة قائد السبسي، حيث عيّنه كاتب دولة في وزارة الخارجية عند ترؤسه حكومة مؤقتة عام 2011. غاب بعدها الرجل عن الأنظار، ليعود عام 2015 بعد فوز قائد السبسي بالرئاسة، ويشغل منصب مستشار مكلّف بالشؤون الخارجية برتبة كاتب دولة. وبعدها بعام، استُدعي الجهيناوي إلى الحكومة في منصب وزير خارجية، إلى حدّ إعفائه أمس. على غرار الزبيدي، ليس الجهيناوي شخصية سياسية كاريزيمية أو ذات حضور شعبي، بل هو أحد أعضاء شريحة من الكوادر التكنوقراطية صَنَعها بن علي وعوّل عليها لإدارة مناصب إدارية عليا والقيام بأدوار سياسية بعقلية إدارية. الميزة الرئيسة للرجلين هي الوفاء شبه المطلق للجهة التي يرتبطان بها سياسياً، وتأدية المهمات بوصفهما «خبيرين» من دون إثارة الكثير من الانتباه أو الدخول في صراعات سياسية. لكن الجهيناوي بالذات لاحقَتْه، منذ ظهوره الأول بعد الثورة، لوثة التعامل مع إسرائيل، وقد ولّد ذلك امتعاضاً شعبياً وصلت أصداؤه إلى البرلمان. لم يتحدث الرجل كثيراً عن الموضوع، واكتفى عند سؤاله عنه من طرف برلمانيين بالقول إنه أدى مهمة كُلّف بها، جاءت في إطار ترتيبات ما بعد «اتفاق أوسلو»، وانتهت مع بوادر انطلاق الانتفاضة الثانية.
مع ذلك، لم تكن ثمة إشارات كثيرة تمهّد للإقالة. الحدث الوحيد الذي أنذر بسوء العلاقات بين رئيس الجمهورية ووزير الخارجية حصل أول من أمس، حين التقى سعيّد وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، من دون حضور الجهيناوي. وفيما بدا مثيراً للانتباه أن سفير تونس لدى إيران، طارق بالطيب، حضر ذلك اللقاء، سرت أحاديث عن أن سبب استبعاد الجهيناوي هو عدم إعلام الأخير رئاستَي الجمهورية والوزراء بعقده ندوة مع الوزير الألماني. وفي ظلّ غياب ناطق رسمي باسم الرئاسة، بعد استقالة معظم أعضاء الطاقم العامل مع قائد السبسي، قال مصدر من القصر لوسائل إعلام إن «التعديل الوزاري كان ضرورياً حتى لا تستمرّ الأوضاع على ما هي عليه منذ أشهر، مع ما يمثّله استمرارها من خطر على السير العادي لدواليب الدولة»، مضيفاً إنه لا مجال لوجود «مراكز قوى داخل أجهزتها ومرافقها». ويبدو أن هذا التصريح يشير إلى شكاوى نقلها رئيس الحكومة إلى رئيس الجمهورية حول سلوك الوزيرين، وخاصة أن سعيّد حديث عهد بالمسؤولية وغير مطّلع على ما يحصل داخل الدولة «منذ أشهر» كما نقل المصدر. في المقابل، لم يكتفِ الجهيناوي بالصمت على الإقالة، بل ردّ عليها بنشر رسالة استقالة، أعلن فيها أنه قرر تقديم استقالته «إثر استحالة مواصلة مهامي على رأس الوزارة حسب ما تقتضيه الأعراف الدبلوماسية، وما يتطلّبه ذلك من انسجام بين مؤسسات الدولة». وإذ يستمرّ الجدل حول أسبقية الاستقالة على الإقالة، يبدو أن الثابت الوحيد المهم هو وجود صراع بين المؤسسات.
بهذه الإعفاءات، تخلّص يوسف الشاهد من تركة رئيس الجمهورية الراحل ضمن فريقه الحكومي، على رغم أن ذلك يبدو حتى الآن مجرّد انتصار رمزي لمصلحته، فالساحة السياسية تشهد مشاورات لتشكيل حكومة جديدة، لا يُرجّح أن يكون هو على رأسها. من جهة أخرى، تُعدّ الإعفاءات إشارة إلى عدم رضى رئيس الدولة عن أداء الوزيرين اللذين يشرف عليهما، لكن لا تزال خياراته البديلة غير واضحة حتى الآن.