كُتب أوّل دستورٍ مدنيّ ديموقراطي في تاريخ العراق السياسي في عام 2005، بعد عامين على احتلال الولايات المتحدة وحلفائها للبلاد، في نيسان/أبريل 2003، وإسقاطهم نظام صدام حسين، الذي حكم بشعارات «حزب البعث العربي الاشتراكي». نظامٌ عُدّ من أقسى الأنظمة الدكتاتورية في العالم، واستخدم كل أنواع القمع والترهيب والعزل الفكري والسياسي للشعب، لأكثر من 30 عاماً. «دستور 2005» كُتبَ على يد «أعداء صدام» من الأحزاب الشيوعية والقومية والإسلامية، بشقّيها «الشيعي» و«السُّنّي»، لذلك، جاء ملغوماً بالخوف والحقد والكراهية. دستورٌ كُتب بكمّ هائل من عقد الماضي، وفوضى الحاضر، والخوف من المستقبل؛ كُتبَ تحت حراب المحتل وخناجر دول الجوار. رغم كل هذه العوامل «غير الطبيعية»، يمكن اعتباره من أفضل الدساتير في الوطن العربي والمنطقة. فالمشكلة الحقيقية لا تكمن في الظروف التي كُتب فيها، أو الجهات التي شاركت في كتابته فقط، إنما المشكلة الحقيقيّة في الآليات التي يطبّق الدستور بها. فالشخصية السياسية العراقية، المشاركة في كتابته، غلب عليها الخوف من «الدكتاتور» وعودته، وتأثّرت كثيراً بشخصيته في ممارسة السلطة. فعمدت هذا الطبقة، التي حكمت العراق منذ عام 2003 حتى اليوم، والمتمثّلة في الأحزاب الإسلامية «الشيعيّة» و«السُّنّية»، مع الأحزاب القومية في إقليم كردستان، إلى ممارسة كمّ هائل من الدكتاتورية الانتقائية، ظلماً وقمعاً وفساداً، متشبثةً بسلطتها، فتحوّل الدستور إلى جسر تعبره هذه الطبقة فوق مطالب الشعب واحتياجاته.
الجيل الذي لم يشترك في التصويت على «دستور 2005» أكثر تقديساً له ممن كَتَبه


تظاهرات تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، المستمرة حتى اليوم، أثبتت أن جيلاً جديداً نشأ وكبر على «حديث» الديموقراطية والدستور، لكنّه في المقابل لم يلمس سوى الدكتاتورية والظلم والفساد. الرائع في هذا الجيل، رغم عدم مشاركته في الاستفتاء على الدستور عام 2005 (لم يكن حينذاك قد أتمّ السنّ القانونية المحدّدة للمشاركة)، قرّر أن يحارب الطبقة السياسية بسلاحها، أي الدستور الذي يمنح «حقّ التظاهر، وحريّة التعبير، والاعتصام والإضراب». صحيحٌ أنّه لم يصوّت على الدستور، لكنّه التزمه أكثر ممن كتبه ودوّنه. مثلاً، كميّة القمع الممارس من قِبل تلك الطبقة وأحزابها، لم تستطع أن تجبر/تقنع الشباب بالتخلي عن أسلوبهم الدستوري في التظاهر. هذا الجيل بدأ يحاجج الطبقة السياسية بمواد دستورٍ تقول إنها تلتزمه التزاماً تامّاً.
النقاش والجدال يبدآن، دستوريّاً، من إقالة الحكومة وحل البرلمان، وتغيير قانوني الانتخابات والأحزاب، ويصل إلى حدّ الحديث عن ضرورة وضع آليات لتعديل الدستور، والذهاب أكثر إلى وجوب تغيير شكل النظام السياسي في العراق، من جمهوري برلماني إلى جمهوري رئاسي. هذا الجيل يطالب كتبة الدستور بتطبيق بنود القانون المانعة لوجود سلاح خارج إطار الدولة، ويحظر وجود الميليشيات أيضاً المنتشرة على طول الجغرافيا العراقية. هذا الجيل يطالب بالعدالة الاجتماعية، وحريّة الإعلام، واستقلال القضاء، وإنهاء الطائفية السياسية.
مع ذلك، «الكتبة» هم أنفسهم من يخرق الدستور، مع كل نفس يتنفسونه، ويعمدون إلى الأساليب الدكتاتورية للبقاء في السلطة، والاستمرار في سرقة أموال الشعب، بينما الجيل الذي لم يشترك في كتابته والتصويت عليه، أكثر تقديساً له منهم!
* كاتب عراقي