دمشق | «تنتظر أحياناً ساعاتٍ طويلة جراء الازدحام الذي يسببه الحاجز الأمني. ترى العنصر مصرّاً على التدقيق في تفاصيل بطاقتك الشخصية والتأكد من أنها غير مكسورة أو مشعورة. وإذا وجد فيها خللاً كهذا، فاستعد لكي يمطرك بالأسئلة الرتيبة وغير اللازمة والتي لا تخلو من اتهامات. وفي الوقت نفسه، قد تنفجر، على بعد أمتارٍ قليلة، إحدى السيارات التي مرت عبر الحاجز نفسه!»، يقول فادي م. (34 عاماً) لـ«الأخبار»، ويتساءل: «كيف يمكن بعد ذلك أن نثق بقدرة هذه الأجهزة على حفظ أمننا واستقرارنا؟
للأسف لدينا فروع أمنية يمكنها أن تسمع ما تبوح به لزوجتك، لكنها عجزت عن اكتشاف السلاح المهرّب إلى الداخل منذ بداية الأزمة».
هكذا ينظر سوريون كثر الى بعض الأجهزة الأمنية وتجاوزاتها، في مقابل الثقة العميقة التي يمحضونها للمؤسسة العسكرية، وتعويلهم على دور الجيش كضامن رئيسي للوحدة الوطنية.
وينقسم الجهاز الأمني السوري إلى فروع أربعة، أوّلها «أمن الدولة» الذي، كما يشير اسمه، يفترض أن يكون نطاق عمله محدّداً بالقضايا التي تمس أمن الدولة، كالفساد وحماية البلاد من التجسّس الخارجي وكشف شبكاته والتصدي للمسّ بهيبة الدولة. وهناك «الأمن السياسي» المكلّف بمهمة المسح الكشفي لكافة الفصائل والأحزاب والشخصيات السياسية، والتحقق من مصادر تمويلها، والتحقّق من ارتباطاتها الخارجية. أما «الأمن العسكري» فيختص بالقضايا ذات الشأن العسكري، وينسق مع المؤسسة العسكرية. وأخيراً فرع «المخابرات الجوية» الذي تتحدد صلاحياته في الحفاظ على أمن المطارات والتنسيق مع القوة الجوية في الجيش. وتضاف إلى هذه الفروع الشرطة السورية (قوى الأمن الداخلي).
أهم المشاكل التي رافقت عمل فروع الأمن ظهرت على مستويين. الأول أنها، في كثير من الأحيان، خرجت عن تبعيتها القانونية لبعض الوزارات. والثاني، عدم التزام كلّ فرع بحدود صلاحياته. لذلك، غالباً ما يتداخل عمل الفروع على الأرض. ويلفت مصطفى، وهو طالب جامعي في كلية الآداب في دمشق، الى أنه خرج في «تظاهرات سلمية منذ بداية الاحتجاجات الشعبية، واكتشفت أنه ليس هناك فرع واحد مختص باعتقال المتظاهرين. فأنا شخصياً تنقّلت بين أكثر من ثلاثة فروع أمنية، ولا داعي للحديث عن التجاوزات والمعاملة المهينة التي يتلقّاها المعتقل هناك». ويضيف: «في إحدى المرات تمكنت عائلتي من التواصل مع أحد الوزراء، ومع ذلك لم يستطع تحديد مكان اعتقالي، وهذا دليل على مدى التجاوزات التي يقوم بها الأمن، والتي كانت واحدة من أسباب مشاركتنا في التظاهرات».
وفي الغالب لا يخضع الموقوف لدى هذه الفروع لمحاكمة قضائية بعد انتهاء التحقيق معه، ويبقى كثير من المعتقلين في سجون الفروع الأمنية لفترات طويلة، علماً بأن القانون لا يجيز توقيف المتهم من دون محاكمة أكثر من 40 يوماً. كذلك فإن إسدال ستار من الكتمان على مكان احتجاز المعتقل يحول دون توكيل الأخير محامياً يتابع قضيته، ويفتح الباب أمام المحسوبيات والرشى التي يدفعها الأهل في مقابل معرفة مكان المعتقل. وفي هذا السياق تقول س. مسلماني لـ«الأخبار»: «اختفى ابني الوحيد لمدة تزيد على شهر ونصف الشهر. لم نترك أحداً إلا سألناه لمعرفة مصيره. قصدنا وزير المصالحة الوطنية علي حيدر، وعرفنا بعد جهدٍ طويل أنه معتقل في أحد الفروع الأمنية، وعند البحث تبيّن أن القصة مجرد تشابه أسماء!». وللمفارقة، تضيف، فإن ابنها أعيد اعتقاله مرة أخرى، «وعند ملاحقة الأمر تبيّن أن الاسم لم يشطب من كافة قوائم المطلوبين. هذا هو الواقع. أكثر ما عانى منه السوريون هو الإرهاب الخارجي وتجاوزات الأجهزة الأمنية».
وفي كل فترة تصل التجاوزات في أحد الأجهزة الأمنية إلى حدِّ الانفجار، تضطر قوة مركزية من أمن العاصمة إلى التدخل في شكلٍ مباشر لمعالجة الأمر. تقول م. الخطيب، وهي إحدى القاطنات في محافظة حمص: «في إحدى المرات اضطرت قوة من الأمن العسكري في دمشق إلى إلقاء القبض على بعض أفراد الأمن العسكري في حمص، وذلك بعدما ألقي القبض على أحد كبار المطلوبين مرات عدة، وفي كل مرة كان يتم إطلاق سراحه في ظروفٍ غامضة»، وتتساءل: «لماذا يتم الانتظار حتى تتفاقم الأمور وتصل إلى مرحلة الانفجار والاستياء الشعبي؟ أليس هذا أحد الأسباب التي تدفع بالمواطن إلى فقدان الثقة بدولته؟».
اليوم، ومع تزايد الميل العام نحو الحل السياسي، يُعاد فتح الحديث عن ضرورة إيجاد طريقة لوقف تجاوزات الأجهزة الأمنية، ولعل أحد أبرز السيناريوات المطروحة في الشارع السوري هو تجميد صلاحيات الأجهزة الأمنية، بعد تكليف الجيش السوري، مؤقتاً، بحماية السلم الأهلي والاستقرار الداخلي، ووضع كل قوى المجتمع والدولة السورية تحت تصرفه، لتُعاد هيكلة هذه الأجهزة بما يضمن وضعها تحت الرقابة المباشرة للحكومة السورية، بالتوازي مع نزع سلاح المجموعات المسلّحة خارج إطار الجيش.