في الوقت الذي يهرول فيه هذا وذاك من عرب أميركا وخوارجهم من أهل الصحراء القاحلة إلا من النفط نحو إسرائيل، يَلمع في سماء المنطقة العربية والعالم نجمٌ جديد. تتقدّم هبة اللبدي بوصفها بطلة عربية ومقاوِمة فلسطينية تحدّت الاحتلال في عقر سجونه، وتمكّنت بصلابة إرادتها وعنفوان روحها ووضوح رؤيتها وعدالة قضيتها من تلقينه درساً في معنى الوجود البشري والكرامة الإنسانية. وفرضت عليه، وهو المدجّج بآخر مبتكرات القتل ونظريات التفوّق الغربية، إعلان عجزه عن مواجهة روحها المقاومة، والتسليم بحريتها التي فشل في مصادرة ولو ذرّة واحدة منها على رغم كلّ ما فعله على مدى أكثر من أربعين يوماً حفلت بأنواع مبتكرة من التعذيب والوحشية.هبة اللبدي صورة إضافية تؤكد صوابية النموذج الذي لا نموذج غيره لِمَا يجدر بالعرب، كلّ العرب، أن يتمثّلوه إذا ما أرادوا استحقاق ما يَصْبون إليه من عزّة وكرامة. فالمقاومة، وهي عين ما يقوم به أحرار لبنان وفلسطين وباقي العالم، الذين يخوضون، بالأصالة عن أنفسهم وبالنيابة عن العالم، معركة الإنسانية المفتوحة مع أشرس الأعداء وأكثرهم إجراماً، هي السبيل الذي لا سبيل غيره لاستعادة الأرض ومعها الكرامة والمستقبل المفقود. ولولاها، لما تَحقّق ما تحقّق من تحرير أجزاء غالية من الأرض اللبنانية، ولما أمكن إرغام العدو على التسليم بعجز لم يكن يعرفه سابقاً، والتقوقع خلف جدران الإسمنت العالية التي باتت اليوم مع تعاظم المقاومة واشتداد بأسها جدران خوف ورعب تُزنّر جهات الأرض العربية المغتصبة.
قد لا تكون البطولة اختراعاً فلسطينياً. لكن الأكيد أن الإضافة اللبنانية والفلسطينية ذات الأثر على معاني المفهوم ومضامينه جعلته أغنى بكثير مما كان عليه، بل ومثالاً جاذباً لأجيال وأجيال. وما فِعْل هذه الحسناء الفلسطينية إلا دليل على الأثر الذي راكمته نجاحات المقاومة خلال العقود الثلاثة الماضية. فالإضافة اللبنانية، وقبلها الفلسطينية، المُعزَّزة بالانتصارات التأسيسية، تركت بصمات حاسمة على معنى الفعل البطولي ومضامينه المسلّم بها، وأعادت تقديمه كأقرب ما يكون إلى واقعه وحقيقته بعد مرحلة انحسار وتراجع سادت خلالها انهزامية غذّتها اختراقات أمنية وسياسية كبيرة كان اتفاق «أوسلو» أحد أبرز تجلياتها، قبل أن تنجح المقاومة في قلب الطاولة وتستعيد المبادرة. ولو لم يكن الأمر كذلك، وهو حتماً كذلك، لما أمكن لِهَبة ولأمثالها، وهم كثر، من الذين وُلدوا في معمعان الهزائم أن يختاروا سبيل المقاومة والمواجهة المحفوف بالمخاطر والتضحيات، لكنه، في المقابل، الضامن الوحيد لكلّ المعاني والقيم الإنسانية التي تحرص على كرامة الإنسان وسعادته وحريته غير المقيّدة. المقاومة هي التي فرضت على العدو التراجع وتقديم التنازلات، وهي التي قيّدت استباحة الأرض العربية وإنسانها، وهي التي ستضع حداً لكلّ هذه الغطرسة والتوحّش، وهي التي ستُمكّن أحرار فلسطين ومناضليها الذين يتابعون اقتفاء أثر من سبقهم من مناضلين ومناضلات، من استعادة وتحقيق ما تعمل له السواعد وترنو إليه العيون وتخفق له القلوب.
ربما وجب علينا شكر العدو الذي أتاح لنا إعادة اكتشاف الأبطال. فهؤلاء هم وحدهم مَن يصنع الحكاية التي ستكون لها خاتمة مخالفة لما افترضه الغرب يوم أقام هذه المستعمرة المحمومة بالفناء والتبدّد. وهبة اللبدي واحدة من الذين يغْنون هذه الحكاية التي لا حكاية غيرها.
هبة اللبدي... ما أجملك!