حسم الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، أمر زيارته للولايات المتحدة بتأكيد حصولها في موعدها يوم الأربعاء المقبل. وقد كانت هذه الزيارة محلّ نقاشات وسجالات داخل تركيا بين داعٍ إلى إبطالها ومطالِب بحصولها. خلال أقلّ من شهر، بين التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي واليوم، مرّت العلاقات التركية ــــ الأميركية في «زكزاك» غير مسبوق. توالت التصريحات والمواقف من الطرفين، ولكن خصوصاً من الجانب الأميركي، وكلّ واحد منها يناقض الآخر على قاعدة سياسة «كلّ يومٍ بيومه». على الرغم من هذه التناقضات، كان الأبرز إخلاء الساحة السورية من الوجود الأميركي المباشر (لاحقاً تم استثناء مناطق دير الزور النفطية)، وهو القرار الذي أتاح بدء عملية «نبع السلام» العسكرية التركية في 9 تشرين الأول/ أكتوبر، والتي لولا قرار الانسحاب الأميركي لما كان لها أن تحصل. ومع أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حذّر إردوغان من عواقب مدمّرة على الاقتصاد التركي إذا تم التعرّض للمدنيين الأكراد، فإن زيارة الوفد الأميركي الرفيع المستوى برئاسة نائب الرئيس، مايك بنس، لأنقرة، في 17 تشرين الأول الماضي، أكدت القرار الأميركي بدعم عملية التدخل التركي عبر «اتفاقية أنقرة» التي رسمت حدود «المنطقة الآمنة» التي ستشرف عليها تركيا. وصف إردوغان الاتفاقية بالتاريخية، وهي بالفعل هكذا بالنسبة إلى تركيا. فالذي كان يحول دون تنفيذ رغبة أنقرة في «المنطقة الآمنة» في الشمال السوري، هو معارضة واشنطن لها خلال عهد باراك أوباما وخلال عهد دونالد ترامب. أتبع إردوغان «اتفاقية أنقرة» بـ«اتفاقية سوتشي» في 23 تشرين الأول، مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والتي بدت كما لو أنها تطبيق موسّع وأكثر دقة لـ«اتفاقية أنقرة»، وربما لاتفاقيات سرية أو ضمنية بين واشنطن وموسكو. تجاوزت أنقرة رسالة ترامب «المهينة» لإردوغان في التاسع من تشرين الأول الماضي، والتي دعاه فيها إلى ألّا يكون «أحمقَ». «اتفاقية أنقرة» أعطت إردوغان ما كان يحلم به منذ بداية الأزمة السورية. أكثر من ذلك، فإن ترامب دعا إردوغان إلى زيارة واشنطن للتفاهم على كلّ شيء.لكن بعد تحديد الموعد في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، دخلت على خطّ العلاقات المتحسّنة بين الرجلين مجموعة من التطورات السلبية المؤثرة على العلاقات بين البلدين. من ذلك قراران لمجلس النواب الأميركي: الأول يعترف بأن المجازر التي ارتكبتها السلطنة العثمانية عام 1915 ضد الأرمن كانت «إبادة»؛ والثاني يفرض رزمة عقوبات اقتصادية على تركيا ربطاً بعمليتها العسكرية ضد الأكراد. في الأول، كانت المفاجأة أن «الحزب الجمهوري» وافق على المشروع الذي قدمه «الحزب الديموقراطي»، لينال القرار شبه إجماع غير مسبوق. أما الثاني، فهو فرض عقوبات على مصارف تركية وشخصيات (من بينها ما يتعلق بعائلة إردوغان) ومنع تصدير أسلحة. والمفاجأة أيضاً أن القرار الخاص بالإبادة كان بعيداً زمنياً عن موعد إحياء ذكراها في 24 نيسان/ أبريل من كلّ عام. كما أن فرض العقوبات جاء بعد السماح رسمياً لتركيا بالقيام بعملية عسكرية في شرقي الفرات، والتخلي رسمياً عن «قوات سوريا الديموقراطية» (قسد). لذا، فإن قرار مجلس النواب، الذي جاء بتحريك من «الديموقراطيين»، كان يصبّ أولاً في خانة كسب الناخبين الأرمن ومن يتأثر باللوبي الأرمني في الولايات المتحدة في سنة الانتخابات الرئاسية، ويتعلق ثانياً بلجم اندفاعة ترامب نحو الانسحاب من سوريا. وربما كان ذلك مؤثراً على قرارات ترامب الذي «استدرك» بالإعلان أنه سيبقى في سوريا في مناطق آبار النفط في منطقة دير الزور والحدود العراقية، بل سيزيد من عدد جنوده هناك، داعياً «قوات الحماية» الكردية إلى أن تكون إلى جانب الجنود الأميركيين؛ «حرس حدود» مناطق النفط.
إردوغان منزعج من تصويت النواب الجمهوريين إلى جانب القرارين


لكن ترامب لم يكن ليكتفي بهذا القرار للردّ على أو لمواجهة حملة «الديموقراطيين» عليه ومحاولة عزله قضائياً. فهو لا يكتفي بالإعلان عن بقائه في مناطق النفط، بل يريد من إردوغان أن يقف إلى جانبه في المعركة ضد «الديموقراطيين». لذا، بعد صدور قرارَي مجلس النواب ضد تركيا، أعلن إردوغان أنه غير واثق بعد من أن زيارته لواشنطن ستتمّ، فيما قال مسؤول في القصر الرئاسي في أنقرة لصحيفة «حرييت» إن «مجموعة في الولايات المتحدة تعمل على منع اللقاء بين ترامب ورئيس جمهوريتنا وتخاف من التنسيق الحاصل على المستوى الشخصي بين الزعيمين، ويجب ألّا نتعامى عن ذلك، وهذه المجموعة تريد أن ترفع جداراً يفصل بين تركيا والولايات المتحدة». على الرغم من الدعم الأميركي للأكراد في سوريا، فإن إردوغان يعرف أن هذا الدعم بدأ واستمرّ في عهد باراك أوباما، وأن ترامب ــــ على رغم استمرار دعمه للأكراد ــــ كان منذ وصوله إلى الرئاسة يريد الانسحاب من سوريا، بل هو الذي فتح الباب أمام الانسحاب الفعلي ودخول تركيا إلى سوريا وإقامة «المنطقة الآمنة». لكن إردوغان منزعج من تصويت النواب «الجمهوريين» إلى جانب القرارين، على رغم المبرّرات التي تذرّعوا بها. لذا، كان التردّد التركي في الذهاب إلى لقاء ترامب. إلا أنه في حسابات الربح والخسارة، فإن إردوغان يفتقد دعم «الديموقراطيين»، وفي عدم ذهابه فإنه سيفتقد دعم ترامب الشخصي ويخسر كلّ شيء. في المقابل، فإن ترامب يريد مواجهة حملة «الديموقراطيين» عليه بمنع تحقيق هدفهم، وهو إفشال سياساته وعلاقاته الجديدة مع إردوغان، بدعوة الأخير إلى تلبية الزيارة، وإظهار مكاسب أميركا أمام الرأي العام الأميركي من علاقات جيدة مع تركيا ربما تكون على شاكلة صفقات عسكرية أو اقتصادية جديدة مربحة للمصالح الأميركية. أما الخطوة الأخرى لمواجهة «الديموقراطيين»، فهي في إعلان ترامب بقاءه في مناطق النفط السورية بما يحقق لأميركا مكاسب (هي عملياً سرقات) نفطية تنسجم مع نمط تفكير ترامب. لذلك، تبدو زيارة إردوغان للبيت الأبيض على قاعدة «إردوغان رابح ــــ ترامب رابح»، والعبرة في نتائج الزيارة.