لم تعد الجبهة الجنوبية السورية محيّدة عن الاقتتال الداخلي بين فصائل المعارضة المسلّحة. ومع أن علاقات المسلّحين المصنّفين أميركياً في خانة «المعتدلين» بالمجموعات المحسوبة على تنظيم «القاعدة» كـ«جبهة النصرة» و«حركة المثنى»، لم تكن دائماً سمناً على عسل، واقتصر المدّ والجزر على التنافس على السيطرة وتقاسم الغنائم وتبادل الاغتيالات والضربات الأمنية من دون التبني الواضح، لكن الجبهة الجنوبية تميّزت في السنوات الماضية بالتنسيق العالي بين الفصائل التابعة مباشرةً لغرفة العمليات الأردنية «الموك» وجماعات «القاعدة» في العمليات ضد الجيش السوري. حتى إن «الموك» التي يشرف عليها ضباط أميركيون وخليجيون وأردنيون، لم تبخل على إرهابيي «جبهة النصرة» بالسلاح النوعي كصواريخ «التاو» التي استخدمتها على نطاق محدود في المرحلة الماضية، ولا سيّما خلال الهجمات المتكرّرة لما سمّي «عاصفة الجنوب» على مدينة درعا قبل أشهر.
الفشل الذريع الذي ألحقه صمود الجيش وأهالي مدينة درعا بـ«عاصفة الجنوب»، التي سَجّلت سادس وآخر هجماتها في أيلول الماضي، بالإضافة إلى التحوّلات السياسية التي فرضها التدخل الروسي على موقف ودور الاستخبارات الأردنية في الجنوب، دفع «الموك» إلى تبنّي سياسة جديدة في التعامل مع الوقائع الميدانية في الجنوب. واتخذت «الموك» قراراً في أيلول الماضي، كنتيجة لفشل المسلحين في إسقاط مدينة درعا، بوقف الدعم عن عددٍ من الفصائل التابعة لها وخفض مخصّصات فصائل أخرى، بالإضافة إلى خفض تدفّق السلاح وعلاج المقاتلين في المشافي الأردنية مقابل تعويم «لواء العشائر»، المدعوم أردنياً وأميركياً.
وُعد المسلحون بخمس دبابات لكل لواء ومغريات مالية وتسليحية أخرى


حرب «المعتدلين» على «الجهاديين»

وعلى ما يظهر من معطيات الميدان الجنوبي، فإن المرحلة المقبلة في درعا والقنيطرة تحمل معالم «حروب إلغاء» تستعد لها الفصائل التي وردت في لائحة التصنيف الأردنية تحت خانة الـ«معتدلة» كـ«جيش اليرموك» و«الجبهة الجنوبية في الجيش الحر» و«ألوية العمري» و«لواء شباب السّنة» ضدّ التنظيمات «الجهادية»، تحديداً «جبهة النصرة» و«حركة المثنى».
وقد تكون معركة الدفاع عن مدينة الشيخ مسكين في الريف الغربي لدرعا، آخر المعارك التي تخوضها ألوية «الجيش الحرّ» جنباً إلى جنب مع «النصرة» و«المثنى» لوقف تقدّم الجيش السوري المتواصل في «المدينة ــ العقدة» التي يشكّل سقوطها كاملة مفتاح التقدّم على كامل جبهات حوران، من منطقة «الجيدور» إلى الريف الشرقي، وصولاً إلى جبهات أرياف القنيطرة. وليس خافياً أن السلاح الذي استخدمته الجماعات المسلحة في الأسابيع الماضية في الشيخ مسكين هو من بقايا السلاح المكدّس منذ أشهر في المخازن، أي منذ معارك «عاصفة الجنوب».
قبل 12 يوماً، استدعت غرفة «الموك» عدداً من قادة المجموعات المسلّحة التابعة لـ«الجيش الحرّ» و«لواء العشائر» و«جيش اليرموك» و«ألوية العمري» و«لواء شباب السّنة» الذي يرأسه أحمد العودة ابن مدينة بصرى الشام، إلى اجتماع في الغرفة في عمّان. مصادر أمنية سورية معنية بالجبهة الجنوبية أكّدت لـ«الأخبار» أن الاجتماع ضمّ إلى جانب ضابطين من الاستخبارات الأردنية، ضابطاً أميركياً وآخر بريطانياً، بهدف إبلاغ المجموعات المسلّحة التوجّه الجديد لـ«الموك»، وجدول أعمال المرحلة المقبلة، وأشكال الدعم التي ستوفرها الدول الداعمة للمسلحين عبر غرفة العمليات.
وأشارت المصادر إلى أن المسلحين تبلّغوا وقف أي عمليات ضدّ الجيش السوري (لوقف النزف الإضافي في صفوفهم) وتجنّب المعارك الجانبية مع المجموعات المحسوبة على تنظيم «داعش»، في إشارة إلى «لواء شهداء اليرموك» الذي يسيطر على منطقة حوض اليرموك في مثلّث «الجولان ــ الأردن ــ درعا» والمجموعات الأخرى في منطقة اللجاة شمال شرق درعا، في مقابل التركيز على قتال «جبهة النصرة» و«حركة المثنّى» والفصائل «الجهادية» الأخرى، لأن «قرار تصفية الجهاديين في الجنوب قد اتخذ». ولم تبدِ الفصائل المختلفة اعتراضها على الخطّة الجديدة لـ«الموك» باستثناء أحمد العودة، الذي عاد ووافق على خطّة «اجتثاث الجهاديين» مقابل مغريات عرضها الأردنيون، خصوصاً مع الوعود التي تلقّتها المجموعات بالدعم والتسليح والتدريب الذي سيقدّمه معسكر تدريب جديد بدأ الأميركيون بتجهيزه على الحدود الأردنية، ويضمّ خبراء من بريطانيا والأردن ودول غربية أخرى. وبحسب المصادر، فإن كل فصيل ينضمّ إلى «الحملة» يحصل على خمس دبابات مع تدريب كامل لطاقمها، بالإضافة إلى مغريات أخرى تتعلّق بالرواتب والتسليح.
وأشارت المصادر إلى أن تفاصيل الاجتماع سُرِّبَت إلى «النصرة» و«المثنّى»، و«الحرب قد تندلع في أي وقت». وبمعزلٍ عن عمليات الاغتيال الدائمة التي تشهدها الجبهة الجنوبية، وكانت آخرها محاولة «النصرة» اغتيال قائد «الفيلق الثالث في الجيش الحر» على أطراف بلدة طفس، وانتهت بمقتل أربعة عناصر لـ«النصرة» بعد انفجار العبوة بسبب خطأ تقني. بدأت أولى «بشائر» الحرب بعد إعلان «لواء العشائر» يوم الأحد الماضي قيامه بهجوم على مقارّ «حركة المثنّى» في ريف درعا الشرقي، و«تحريره» عسكريين ومدنيين من بينهم «رئيس مجلس محافظة درعا الحرّة» يعقوب العمّار. وما لبث «جيش اليرموك» أن أعلن تحريره العمّار من سجون «المثنى»، ولتصدر الحركة لاحقاً عدّة بيانات تقول فيها إنها تتعرّض لحملة إعلامية تمهيداً لتصفيتها، فيما اتهم «جيش اليرموك» الحركة بقطع طرق إمداده نحو الشيخ مسكين، ووجه نداءً إلى مقاتلي «المثنى» لعدم الامتثال للأوامر، داعياً إياهم إلى الانشقاق. كذلك اندلعت اشتباكات بين مسلحي «لواء العشائر» و«المثنّى» بعد خطف الأخيرة المسؤول المالي للواء. وتنتشر «المثنّى» في الريف الغربي لدرعا في قرى إبطع وداعل وعتمان ونوى، حيث بدأ العديد من المسلّحين المحليين في هذه القرى السعي لعقد تسويات مع الدولة السورية.

نموذج «سوريا الديموقراطية» إلى الجنوب؟

وتتزامن الحملة الجديدة ضد «الجهاديين» مع ما شهدته «النصرة» التي تقدّر مصادر أمنية عدد مقاتليها في الجنوب بـ 4 آلاف مسلّح، من عزل لقادتها من الصف الأوّل والثاني وخروج أكثر من 180 منهم باتجاه الرّقة وإدلب في صفقة مع الاستخبارات السورية، وانتقال «الشرعي» أبو ماريا القحطاني إلى إدلب. كذلك عزل الأمير العام «أبو جليبيب»، وتعيين «أبو أحمد أخلاق» مكانه، وهو خمسيني من منطقة القلمون، ويُوصف من قبل القادة العسكريين «الجهاديين» في الجنوب بـ«قليل الخبرة».
وتبدو الخطوة الأميركية ــ البريطانية في الجنوب السوري مشابهة لخطوة تشكيل «قوات سوريا الديموقراطية» في الشمال السوري، لناحية قيام الجماعات المسلّحة المدعومة من الأميركيين بطرد «داعش» من مناطق سيطرتها في محافظات الحسكة وأطراف الرّقة، في مقابل احتفاظ هذه الجماعات بالسيطرة على هذه الأراضي، في تقاطع واضح بين الميدان والتحضير للتفاوض المستقبلي على حصص الدول المؤثّرة في الحرب السورية، ومشاركتها في تحديد شكل الحكم الجديد في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السورية، في ظلّ الكلام الروسي عن ضرورة انخراط «المجموعات المعتدلة» في قتال «الجهاديين».
بدوره، يترقّب الجيش السوري سير الأحداث في الجنوب متحيّناً الفرصة لتحقيق التقدّم واستعادة السيطرة على الأماكن التي خسرها في السابق، متّبعاً سياسة القضم على وقع اقتتال المعارضين وتحوّل المزاج الشعبي في الجنوب لمصلحة الاستقرار وعودة سلطة الدولة. وبحسب المعلومات، فإن الجيش يضع في حساباته عدداً من النقاط الاستراتيجية في أرياف درعا والقنيطرة، التي يستعد للانقضاض فيها على الجماعات المسلّحة لإعادتها مجدداً إلى سلطة الدولة.