رفع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الصوت عالياً، محذراً من تهديدات إيران وحلفائها في المنطقة، عبر الإيحاء بأن طهران توشك على أن تُوجّه ضربات للبنية التحتية الإسرائيلية، في استنساخ للهجوم على المنشآت النفطية السعودية في أيلول/ سبتمبر الماضي، مُتبِعاً تحذيراته بالتشديد على أن إسرائيل ليست السعودية. يأتي ذلك في وقت شهدت فيه إسرائيل، في الأسابيع القليلة الماضية، زيارات لمسؤولين عسكريين أميركيين، بدت لافتة لناحية عددها وتتابعها ومستوى القائمين بها وجدول أعمالها، الأمر الذي أعاد التذكير بزيارات العسكريين الأميركيين عام 2011، والتي قيل حينها إنها جاءت لثني تل أبيب عن تنفيذ هجوم على المنشآت النووية الإيرانية، كان من شأنه التسبّب للولايات المتحدة بمواجهة عسكرية مع إيران.صحيح أن ثمة تداخلاً بين المصلحة الشخصية لنتنياهو والمصلحة العامة لإسرائيل يدفعه إلى رفع الصوت عالياً، إلا أن تحذيرات المؤسسة العسكرية أيضاً، وعلى أعلى المستويات، تكاد لا تهدأ في الفترة الأخيرة، وتحديداً تنبيهها بناءً على معطى وتقدير استخباريَّين إلى أن الإيرانيين باتوا معنيين، بل مندفعين، لشنّ هجمات على إسرائيل بمستويات لا تقلّ إيذاءً عن ضربة «أرامكو»، سواء ردّاً على هجمات إسرائيلية أو نتيجة متغيرات طرأت على القرار الإيراني، من شأنها دفع المعركة القائمة مع طهران إلى مستويات أعلى من التصعيد. تقديرٌ يبدو واضحاً أن المسؤولين العسكريين الأميركيين يوافقون عليه، وفق ما أوحت به الزيارات الأميركية لتل أبيب، والتي أُعلِن منها زيارة رئيس أركان القوات المسلحة الأميركية مارك ميلي (الأحد الماضي 24/11/2019)، وقبلها بأسبوع زيارة قائد سلاح الجو الأميركي الجنرال ديفيد غولدفاين، وقبلها بأسبوعين زيارة قائد القيادة المركزية الأميركية «سنتكوم» الجنرال كينيث ماكينزي، إضافة إلى زيارة قائد القوات الجوية الأميركية في أوروبا وأفريقيا الجنرال جيفري هاريغان. وبحسب الإعلام العبري، فإن وزير الأمن الإسرائيلي، نفتالي بينيت، التقى وزير الدفاع الأميركي، مارك إسبر، الخميس الماضي، وأطلعه على الأنشطة التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي لمنع إيران من التموضع عسكرياً في سوريا، والتصدّي لجهودها المستمرة لتقويض أمن إسرائيل.
بناءً على تلك المعطيات، يبدو واضحاً أن التحذير والتهديد متلاصقان، وهما تعبير عن خشية إسرائيلية من أن إيران مقبلة على شنّ هجوم مؤلم على إسرائيل، وإشارة مسبقة إلى أن تل أبيب تعلم ما يخطّط له الإيرانيون، وهي إشارة ذات طابع ردعي. أما الربط بين التصريحات الإسرائيلية العالية النبرة وزيارات العسكريين الأميركيين فيستهدف تظهير مشاركة أميركا إسرائيل القلق، ووقوفها إلى جانبها، وإن كانت ثمة خشية أميركية جلية من ردة فعل إسرائيلية استباقية أو لاحقة على أيّ هجوم ايراني، لا تكون منسّقة مسبقاً مع الأميركي. وفي الخلاصة، يُراد، وفقاً لما رأته «هآرتس» أمس، الإيحاء بوضع شبيه بوضع عام 2011، عندما بدا أن هناك توثّباً إسرائيلياً لشن هجمات ضد المنشآت النووية الإيرانية، الأمر الذي دفع المسؤولين الأميركيين إلى التناوب على سلسلة زيارات لإسرائيل، أُطلق عليها اسم «مجالسة نتنياهو».
هل يعني ذلك أن شيئاً ما يُطبخ في الغرف المغلقة تمهيداً لشنّ اعتداءات على إيران وحلفائها، أم أن الهدف فقط ردع طهران من دون توريط الإدارة الأميركية في مواجهة لا تريدها، أم أن الأمر برمّته مرتبط بالأزمة الداخلية الإسرائيلية، وتحديداً أزمة نتنياهو؟ بناءً على القراءة الإسرائيلية المعلنة، والتي لا يُستبعد أن تكون موجّهة وهادفة، وكذلك المشهدين السياسي والميداني في إسرائيل والإقليم، يمكن الإشارة إلى الآتي:
أولاً: لا خلاف مع الأميركيين حول صحة التقديرات الإسرائيلية، بل إن ثمة تأكيداً مشتركاً أن الردّ الإيراني الذي سيطاول إسرائيل سيكون موجعاً جداً. وعليه، ينحصر الخلاف في ردّ إسرائيل على الردّ. هنا، يريد الإسرائيليون ردّاً مشتركاً مع الولايات المتحدة، وبمستوى يردع إيران عن مواصلة أعمالها «العدائية»، بمفعول رجعي ينهي صورة التراجع الأميركي ويدفع طهران إلى الانكفاء. أما الأميركيون فيسعون إلى منع «المبادرة العدائية» الإيرانية عبر رفع مستوى ردعهم، والتأكيد أنهم يقفون إلى جانب إسرائيل، في موازاة السعي إلى ضبط الردّ الإسرائيلي بما لا يتسبّب بمواجهة تفرض عليهم المشاركة فيها.
ثانياً: ليس خافياً أن نتنياهو يسعى إلى استغلال المواجهة مع إيران لحرف الانتباه عن أزمته. وهو مسعى لا يقلّل من مستوى التهديد وانشغال المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ومعها نظيرتها الأميركية ومن ورائها الإدارة به، لكن الفرصة تبدو مؤاتية بالنسبة إلى نتنياهو كي يمنع سقوطه السياسي والشخصي. وفي هذا الإطار، يتعمّد رئيس الوزراء الإسرائيلي تركيز كلّ مواقفه وتصريحاته على «التهديد الإيراني»، وتخويف الإسرائيليين منه، علّه بذلك يدفع الطرف الآخر إلى منافسته في إطلاق التهديدات. وهذا ما ظهر في قوله أمس إن «على (الأمين العام لحزب الله السيد حسن) نصر الله، وأيضاً على (قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم) سليماني، أن يحذرا من تصريحاتهما، وقبل ذلك أن يحذرا من أفعالها».
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن الوضع اليوم أكثر تعقيداً وحساسية وخطورة بالنسبة إلى كلّ من إسرائيل والولايات المتحدة مما كانت عليه الأمور عام 2011. إذ إن مصالح الإدارة الأميركية الحالية تفرض عليها الابتعاد عن مواجهة إيران بشكل مباشر، خشية التأثير السلبي لردّة فعلها على مجمل المصالح الأميركية في المنطقة. تأثيرٌ كان التقدير حوله عام 2011 هو أنه سيكون محدوداً، فيما قد يكون اليوم، بالدليل الحسّي الميداني (أرامكو وغيرها)، منفلتاً وبمستويات تضرّ بالمصالح الأميركية.