لا تبدو زيارات المسؤولين الأميركيين الأخيرة إلى العراق، معزولة من تصاعد وتيرة العنف والعنف المضادّ في المحافظات الجنوبية. «الفتنة» التي حاولت بغداد وحلفاؤها تجنّب الوقوع فيها يبدو أنها لا تزال سارية المفاعيل، في ظلّ سعي الولايات المتحدة وحلفائها إلى تصعيد الضغوط على إيران من خلالها. في خضمّ ذلك، لا يظهر أداء القوى السياسية على مستوى الحدث، وهو ما قد يؤدي إلى فشل عادل عبد المهدي في تحريك عجلة الإصلاح، لأسباب عدّة؛ بدءاً من استهتار بعض القوى، واستثمار أخرى في مطالب الشارع الغاضب، وارتباك رئيس الوزراء وعجزه عن اتخاذ الموقف المناسب، فضلاً عن إصرار المتظاهرين على «تجهيل» قيادتهم، ما يسهّل خرق صفوفهم، وتحويلهم إلى «أكباش محروقة» لتحقيق أهداف سياسية كبرى، لا تخدم تحرّكهم المطلبي. وما يزيد من تعقيد المشهد الضغوط الممارَسة على القوى الأمنية، محلياً ودولياً، من أجل تقييد تحركاتها، وهو ما يضعها أمام احتمال الانهيار.عودةٌ إلى النقطة الصفر. الأزمة السياسية المفتوحة في العراق منذ الأول من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي لا يبدو أن جهود حلحلتها تؤتي أكلها. لا سياسياً ثمة بوادر أمل، ولا أمنياً في ظل التفلّت على الأرض، ولا اقتصادياً واجتماعياً في ضوء عجز الحكومة والبرلمان والقوى السياسية عن إثبات الجدّية في تنفيذ الحزم الإصلاحية، والذي يحتاج الى خطوات حقيقية في ظلّ هشاشة الثقة بين الطبقة الحاكمة والشارع. توقيع معظم القوى السياسية، أخيراً، على خريطة إصلاحية عُرفت بـ«ميثاق الشرف»، كان لطهران دور بارز في صياغتها، لاقى صدىً إيجابياً لدى «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني) التي وضعت على رأس الأولويات الإسراع في إنجاز قانون الانتخابات وقانون مفوضيّتها، باعتباره مفتاحاً لتجاوز الأزمة. لكن عملياً، لا تزال السلطة عاجزة عن تحريك عجلة الإصلاح بشكل فعّال، لأسباب متعددة، بعضها مرتبط باستهتار القوى السياسية وتلكؤها في التنفيذ، وأخرى متصلة بافتقاد الحكومة برئاسة عادل عبد المهدي الأدوات التنفيذية اللازمة لضبط إيقاع الأزمة، وثالثة متعلقة بتحرّك واشنطن وحلفائها الإقليميين على الخطّ من أجل تأجيج النيران المشتعلة في البلاد. كلّ ذلك دفع عبد المهدي إلى التحذير من أن الخطر محدق بالنظام والدولة، وهو سيؤدي في حال استمراره إلى «صدام أهلي خطير». تحذيرات تزامنت مع سريان معلومات بين الأجهزة الأمنية والحكومة ودوائر مؤثرة في القرار السياسي، مفادها أن المحافظات الجنوبية ستشهد تصعيداً من شأنه إعادة الأمور إلى المربع الأول من الصدامات، والتوطئة لاقتتال شيعي ــــ شيعي.
توعّد عبد المهدي بالتعامل بحزمٍ أكثر مع أعمال العنف والاعتداءات، جاء متأخراً


ما شهدته مدينة النجف، في خلال الساعات الماضية، شكّل نموذجاً من تلك السيناريوات. ووفقاً لمعلومات «الأخبار»، فإن أحداث النجف شاركت فيها ثلاث جهات فاعلة، هي:
1- القوى المحسوبة على النائب عن «ائتلاف النصر» (برئاسة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي) عدنان الزرفي، من جمعيات وغيرها تُعرف بقربها من السفارة الأميركية.
2- القوى المتطرفة دينياً، والتي جاء أنصارها من الديوانية، أي تيارات الصرخي واليماني والشيرازي.
3- المجموعات المحسوبة على التيار الصدري، والتي تُطرح تساؤلات حول هوية من يديرها، في ظلّ الحديث عن أنها «لا تطيع أحداً».
اجتماع هذه القوى الثلاث، وفق معلوماتٍ أمنية، أنتج «حراكاً مشبوهاً» تَمثّل في حرق القنصلية الإيرانية، وتهديد المدينة القديمة للنجف حيث يقطن السيستاني. وعلى رغم نفي مطلعين على «بيت المرجع» وجود «ما يؤشر إلى تهديد يطاول المرجع»، وتأكيدها أن «الوضع في المدينة القديمة هادئ ومستقر حتى الآن»، إلا أن مصادر قيادية في «الحشد» أكدت أن ثمة نفيراً عاماً لبعض الألوية عند محيط سور المدينة القديمة، وذلك تحسّباً لأيّ تهديد، وخاصّةً أن قرار «الحشد» قضى بمنع وصول أيّ أحد إلى هناك تحت أيّ مبرّر. هذا المشهد الأمني لا يُستبعد أن ينسحب، في خلال الساعات والأيام المقبلة، على محافظات جنوبية أخرى، في ظلّ هشاشة في أداء المؤسسة الأمنية، أظهرتها أحداث الناصرية والنجف، حيث انسحبت القوى الأمنية من الأولى نتيجة الضغوط التي مورست عليها من قِبل بعض الجهات السياسية، وهو ما تكرّر في الثانية أيضاً في ظلّ الضغط الذي مارسه الزرفي على القوى الأمنية وقيّد من حركتها. كلّ ذلك يعود بالأذهان وفق البعض إلى أيام سقوط مدينة الموصل في حزيران/ يونيو 2014 بيد تنظيم «داعش»، الأمر الذي يدقّ ناقوس الخطر من انهيار أمني كامل سيفتح الباب على سناريوات أخطر مما تشهده البلاد اليوم.
أين يقف عبد المهدي حيال ذلك؟ يرى مصدر مطّلع، في حديث إلى «الأخبار»، أن موقف رئيس الوزراء الأخير، والذي توعّد فيه بتعامل أكثر حزماً مع أعمال العنف والاعتداءات، جاء متأخراً، بعدما وضع الرجل نفسه في موقع التبرير دائماً، متناسياً ضرورة «جعل الأمن خطّاً أحمر». ويستدرك المصدر بأن عبد المهدي حاول، غير مرة، الاستحصال على غطاء من الجهات الفاعلة والوازنة على الساحة من أجل المضيّ في ضبط الساحات، لكنه دائماً ما اصطدم بتحميله مسؤولية أيّ تطورات قد تنجم عن أداء من هذا النوع.
وفي ظلّ ضبابية المشهد، وارتفاع منسوب العنف والعنف المضادّ والاعتداءات على الأملاك العامة والخاصة، يسود ترقب لما سيخرج عن «المرجعية» اليوم، إزاء ما سمّاها عبد المهدي «الفتنة» التي تعصف بالعراق، والتي يبدو واضحاً حرص الولايات المتحدة وحلفائها الخليجيين على تسعيرها.