غزة | لم يكن يتوقع تامر السلطان، وهو صيدلي يبلغ من العمر 38 عاماً، أنه سيعود إلى قطاع غزة، الذي خرج منه مهاجراً في نيسان/ أبريل الماضي، داخل تابوت. نهاية صادمة لناجٍ من ثلاث حروب ولحظات موت كثيرة في القطاع. ضاقت به السبل مع أنه صاحب مهنة، فقرّر الهجرة إلى أوروبا بحثاً عن حياة أفضل، لكن الموت كان يبحث عن ضحية جديدة من الغزيين. ففي العشرين من آب/ أغسطس الفائت، نُقل إلى ذويه خبر وفاته، ليقع كالصاعقة على عائلته التي كانت على تواصل يومي معه. يقول شقيقه ساهر (29 عاماً)، الذي يفكر في الهجرة على رغم ما حلّ بأخيه، إن تامر كان يملك «صيدلية يعمل بها... وبسبب الظروف غير المعقولة في غزة، قرّر الهجرة رغم معارضة والدتنا». رحل تامر تاركاً زوجته الحامل (أهلها خارج غزة) وثلاثة من الأطفال أصغرهم رضيعة تبلغ عاماً ونصف عام. وصل إلى مصر ومنها إلى تركيا ثم إلى اليونان حيث مكث هناك شهراً. وبعدها ذهب إلى البوسنة حيث انتهت رحلته. أحد أصدقائه، الذي كان على تواصل معه، يقول: «هناك روايات مختلفة حول موته، منها ما يتحدث عن موته متأثراً بلدغة عقرب حيث كان في طريقه عبر الغابات، لكن ما نعلمه من السفارة الفلسطينية أنه كان في المستشفى منذ 15 آب\ أغسطس وتوفّي بعدها بيومين، وذلك نتيجة تسمّم». ويضيف: «في المستشفى تمّ التعرف إلى تامر عبر جواز السفر الخاص به، ثم جرى التواصل مع أهله عبر طبيب أردني». لم تكد فاجعة السلطان تخبو حتى أفاق الغزيون على أخرى، بعدما أُعلن فقدان شاب ثانٍ هو صالح حمد (22 عاماً)، من بيت حانون (شمال). كان آخر أثر له في نهر دارينا على الحدود الصربية - البوسنية في 20 آب/ أغسطس الماضي، إلى أن أُعلن العثور على جثته مدفوناً بين الرمال. وتمّ التعرف عليه من شارة في معصمه تحمل اسمه. يقول والده (52 عاماً): «في أكتوبر، قرر صالح مغادرة القطاع برفقة العائلة عبر معبر رفح البري إلى تركيا، حيث بقي هناك لأسبوع، بينما أكملت العائلة (عشرة أفراد، عدا الوالد الموجود حالياً في غزة)، طريقها إلى اليونان على أمل أن يلحق بها صالح». ويضيف أنهم وصلوا إلى جزيرة ليروس، وبعدها توجه صالح إلى أثينا بينما بقيت العائلة في أحد مخيمات اللجوء، لكنها لم تتمكن من إنهاء إجراءات المكوث في الجزيرة، ولذلك لم تحصل على تصريح إقامة، ولذا قرر صالح التحرك من أثينا نحو بلجيكا. «خرج صالح من اليونان وصولاً إلى نهر دارينا (الفاصل بين البوسنة والهرسك)، حيث فُقد مع مجموعة شبان من غزة وعائلة يمنية حين قرروا قطع النهر، إذ باغتهم تيار وجرفهم وهم في طريقهم إلى قارب. كان صالح أول من اكتشف التيار بل حذّر منه»، يقول الأب المكلوم. وبينما تم العثور على الشبان في حالة صحية سيئة بسبب الغرق، لم يُعثر على صالح سوى بعد عشرة أيام جثة هامدة. وصالح كان قد أنهى دراسة صيانة الكمبيوتر، وعمل بعدها في مجال الاتصالات، ثم في مخبز بسبب ضيق سوق العمل.
تشير مصادر في «الداخلية» إلى أن نحو 350 مسافراً يغادرون القطاع يومياً


وزادت حالات الهجرة بعد وضع آلية لفتح معبر رفح منذ نحو سنتين، خاصة في ظلّ فقدان فرص العمل وارتفاع معدّلات البطالة والفقر. وبحسب «جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني»، في أحدث إحصاءاته، ثمة 37% من سكان القطاع لا يتلقون العناية الصحية. ولم تعد الهجرة هاجساً لدى أفراد، بل باتت لدى عائلات بأكملها. وثمة مساران محتملان للرحلة: إما التقليدي بالترتيب للجوء لدى دول مثل بلجيكا أو غيرها من الدول الأوروبية، وإما بالتهريب براً أو بحراً في رحلة أقلّ ما توصف به بأنها مجازفة عبر «قوارب الموت». يروي ربيع (اسم مستعار) الموجود حالياً في اليونان: «غادرت في نهاية مارس (آذار) الماضي إلى القاهرة، ومنها إلى تركيا قبل أن أنتقل إلى جزيرة ليروس التي تبعد كيلومترات قليلة عن الحدود التركية اليونانية من خلال مركب تهريب عبر بحر إيجة». ويواصل: «انطلقنا من مدينة أزمير التركية عبر مركب مطاطي، وكان عددنا يتجاوز 40 بينهم أطفال (أصغرهم 3 أشهر). رافقنا في المركب أحد المهرّبين، لكن بعد مسير 10 دقائق داخل الماء قفز من المركب وتركنا نقوده، فيما كان كبير المهرّبين على تواصل معنا عبر الواتسآب». ويتابع الشاب: «بعد ثلاث ساعات وصلنا إلى قوارب خفر السواحل اليونانية، حيث تقدّموا إلينا وعرّفنا عن أنفسنا بأننا مهاجرون، فطلبوا منا تتبّع قاربهم عبر مكبّرات الصوت، ثم وصلنا إلى إحدى الجزر اليونانية، وكان في استقبالنا البحرية اليونانية وحرس الحدود، حيث جمعوا بياناتنا ثم وزعوا علينا بعض الأغطية والألبسة». يُعقّب على ذلك والد صالح حمد بأن الدافع وراء هجرة العائلة بكاملها هو أن أولاده تخرّجوا من الجامعات ولم يجدوا وظائف. ويضيف: «أنا أعمل موظفاً في السلطة، وبعد الخصومات لم يتبقّ من راتبي سوى 100 شيكل (28 دولاراً أميركياً)»، مشيراً إلى أنه اضطر إلى بيع بيته من أجل توفير مصاريف الهجرة. ويقول: «زوجتي وباقي أولادي حالياً في مأوى في ليروس، وهي من أسوأ الجزر، حيث يُقيَّد كلّ خمسة أشخاص في خيمة تبلغ مساحتها أربعة أمتار. الأكل المُقدَّم ليس حلالاً، ولذلك لا يستفيدون إلا من الماء واللبن والعصير».
وزاد عدد الغزيين في تركيا بصورة كبيرة خلال السنة الماضية، ومن لديه النقود الكافية لإكمال مسيره يواصل نحو أوروبا وخاصة بلجيكا، وإلا سيبقى في مخيم اللجوء اليوناني حيث يحصل على إقامة بعد قضاء ما بين ستة أشهر إلى سنة.
ويرفض المتحدث باسم وزارة الداخلية في غزة، إياد البزم، اعتبار الأمر ظاهرة أو خروجاً جماعياً، قائلاً لـ«الأخبار» إن «المواطنين الذين يسافرون عبر معبر رفح معظمهم من الحالات الإنسانية كالمرضى والطلبة وحملة الإقامات وحالات إنسانية أخرى»، مضيفاً: «متوسط عدد المسافرين من معبر رفح يومياً لا يتجاوز 300 شخص من الحالات الإنسانية... السفر حالة طبيعية لتلبية احتياجات إنسانية ضرورية وهو حق للمواطنين ولا يمكن وصفه بالهجرة». وفيما تقول بيانات جمعتها وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة إن 60.907 فلسطينيين غادروا غزة عبر مصر في عام 2018، فيما عاد 37.075، تشير مصادر في «الداخلية» إلى أن نحو 350 مسافراً يغادرون القطاع يومياً، أما العائدون فيتراوحون ما بين 200 إلى 250.