جمال خاشقجي انتحر ثم ذوّب جثّته بالأسيد بنفسه. هذا ما كان ينقص الأحكام القضائية الأولية الصادرة أن تقوله بخصوص القضية. خرج قضاء مملكة آل سعود أمس ليؤكد في مناسبة جديدة أنها مملكة للقتل والقهر، وكذلك للدجل الذي بات يُحرج حتى حلفاء هذا النظام وأنصاره. يراهن محمد بن سلمان على تفهّم دونالد ترامب النوع الفريد من القذارة لدى هؤلاء الحكّام، ما دامت آلية الابتزاز والحلْب المهين تعمل بلا معوّقات. يريد الأمير لمملكته عاماً هادئاً يرمم ارتدادات الجريمة الزلزال على العلاقات مع الغرب، فيمرّر استضافة حدث قمة العشرين أواخر 2020 (تشرين الثاني)، ويُحيي مشاريعه الاستثمارية المتعثرة. لكن كما أراد التخلّص من خاشقجي، المنشقّ الذي خرّب عليه عمليات تجميل الصورة بعيون الولايات المتحدة، فارتدت الجريمة عليه عكسياً، ليس مستبعداً أن يحصد ابن سلمان نتائج معاكسة من أحكام وقحة وهزيلة كادت أن تقول إن ماهر المطرب ورفاقه، فريق اغتيال خاشقجي وتقطيعه، حضروا في تشرين الأول 2018 إلى تركيا ومعهم «بالمصادفة» ليس إلا، منشار عظم!طوال عام على مقتل جمال خاشقجي ظلّت تعليقات المتابعين تتراوح بين الاستفظاع والتهكّم من الجريمة وأسلوبها الجامع بين الغباء والوحشية. أحبّ محمد بن سلمان أن يقدّم أمس مادة هزلية جديدة من باب محاولة لفلفة القضية وإغلاق الملف، ليأتي الإخراج بقالب لا يقل غباوة عن أصل الجريمة، وإن كان ثمّة توقيت يظن أنه مؤاتٍ وسيغطي هذه المرة على تهافت الرواية القضائية. يوم قرّر ولي العهد السعودي التنازل أخيراً وتوقيف كل من سعود القحطاني وأحمد عسيري، بعد ضجيج دولي لا مسبوق، كان الأمير الشاب ينحني مع العاصفة التي أتت على كثير مما بناه منذ وصول آل سلمان إلى العرش. أموال طائلة ضُخّت في مشاريع وبرامج في الخارج والداخل، انكبت عليها القيادة الجديدة أملاً في تحسين الصيت وتلميع الصورة لدى الغرب، بما يمتّن العلاقة معه ويرمّم الشراكة مع الأميركيين أو يجددها بصفقة أكثر استقراراً وأطول أمداً.
قيل يومذاك إن الأب الملك، سلمان، كبح جماح نجله المدلّل وأعاد ترتيب آلية الحكم ململماً تداعيات الجريمة. وقيل إن ابن سلمان نفسه، الذي وقف «وحيداً» برباطة جأش وعناد لافتين في منتدى «دافوس الصحراء» غير آبه بالمقاطعة الغربية لمنتدى أريد منه أن يكون عُرس «رؤية 2030»، أدرك سريعاً هول التداعيات من الصفعة الأولى التي تلقاها على سياسته المتهورة. شعر بـ«طعنة» من الغرب جرّاء فداحة ردود الفعل، وهو الآتي قبل أشهر (نيسان 2018) من الولايات المتحدة في إحدى أطول الزيارات التي قد يقوم بها مسؤول إلى الخارج (دامت 3 أسابيع!). ويلاحظ المتابعون أن المملكة، بعد مقتل خاشقجي، دخلت طوراً جديداً من السلوك في سياستها الخارجية، جنحت فيه أكثر إلى الهدوء والتعقّل. فلم تكن جريمة قنصلية إسطنبول سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، ففتحت المسكوت عنه من الملفات، كحرب اليمن واختطاف سعد الحريري ومقاطعة قطر، وظهّرت في آن هشاشة العلاقة بالغرب، وخصوصاً بريطانيا والولايات المتحدة.
طوال العام الماضي، ظل ابن سلمان حبيس طيف خاشقجي الذي لم يكفّ عن ملاحقته. منذ الجريمة وإلى اليوم، لم يزر أي دولة غربية. هو ممنوع، لا بالمعنى الرسمي للكلمة، من أن يزور الولايات المتحدة أو أوروبا، فاختار أن يجري جولات آسيوية وعربية، بدأها برحلة «فك الحصار» كما بدت وقتها، حين قادته جولة عربية إلى المشاركة المثيرة للجدل في قمة العشرين في الأرجنتين. لم يمر كل ذلك بهدوء كما ظن البعض. على سبيل المثال، يروي لـ«الأخبار» مصدر مطّلع، أنه في المدة التي تلت جريمة القنصلية، أقدمت المملكة على فتح أولى الاتصالات من نوعها مع إيران، قادتها إلى عقد اجتماع سرّي عالي المستوى بين الطرفين في سلطنة عمان. اجتماع ظهرت خلاله «إيجابية» سعودية غير مسبوقة باتجاه ملفَّي حرب اليمن والعلاقة مع طهران، ليتبيّن لاحقاً، حين لم تستكمل الجهود، أن الاتصالات كانت من دون علم الأميركيين الذين دخلوا على الخط ومنعوا الرياض من استكمالها. يقود ذلك إلى تأكيد أن مقالة المقرّب من المحمّدين، ابن سلمان وابن زايد، تركي الدخيل (هدّد فيها بالتحالف مع الصين وروسيا وإيران و«حماس» وحزب الله، في حال فرض عقوبات أميركية ضد المملكة على خلفية جريمة خاشقجي)، لم يكن مبالغة من الإعلامي الذي عُيّن بعد أسابيع سفيراً لبلاده لدى الإمارات، بل حلقة في خطة دفاعية قرّرتها الرياض لتخفيف التداعيات.
يستعجل ولي العهد إغلاق الملف والقول إنه أتم ما يطالب به من تحقيق ومحاكمة، ولو كلّف الأمر عدم التخلّي عن «رجاله» الأقربين وحصر من ينطبق عليهم صفة «كبش فداء» في خمسة من الموظفين العاديين حُكم عليهم بالإعدام، وثلاثة آخرين بالسجن المؤقت من لائحة 11 متهماً، والغامض أنه لم توضح أسماء المشمولين بالأحكام. وفي حين لم ينجح في نفي التهمة لدى الرأي العام عن مسؤوليته شخصياً ومباشرة عن العملية، يحاول ابن سلمان إبعاد الجدل حول المسؤولية عن نفسه ونقلها إلى الدائرة المقرّبة منه. وفي تجاهل لتحقيقات تركيا والأمم المتحدة، قرّر القضاء السعودي أمس أن «تحقيقات النيابة العامة أظهرت أنه لا توجد أي نية مسبقة للقتل... كان القتل لحظياً». كما قال إن أوامر مستشار ابن سلمان ونائب جهاز المخابرات، عسيري، كانت إعادة خاشقجي من تركيا، لكن قائد مجموعة الاغتيال أو «فريق التفاوض» كما سمّاه القضاء (المطرب) هو من اجتهد في وقت لاحق وقرّر قتل الرجل. خلاصةٌ فتحت الباب على تبرئة كبار المسؤولين المتبقّين: عسيري، والمستشار المقال من الديوان الملكي سعود القحطاني. وضمّت إلى تلك الاستنتاجات رواية أخرى لتبرئة ثالث الثلاثة الكبار على لائحة الـ11: القنصل محمد العتيبي، بالقول إنه كان في إجازة يوم الجريمة.
كانت كالامار قد دعت إلى إعادة النظر في عقد «العشرين» في السعودية


يسجّل في اختيار الأسلوب والتوقيت للأحكام ملاحظات بينها:
ــــ تعجّل النظام السعودي إصدار القرارات قبل بداية العام الجديد. فهو يفترض أنه بذلك يغلق الملف، إذ يريد أن يتخلّص بما تيسّر من تداعيات القضية، وإعادة الهدوء والثقة من حول النظام في عام 2020 التي يريدها ابن سلمان سنة «هادئة» ومليئة بإنجازات اقتصادية تأخّرت. فيمرّر فيها سابقة استقبال «العشرين» على أراضي المملكة، الحدث المهم، وتعويض الخسارات الفادحة التي تبدأ بتعثّر طرح «أرامكو» الدولي ولا تنتهي بفشل ذريع لاستدرار الاستثمارات الأجنبية، على غرار ما حدث في «دافوس الصحراء» وتأثير الجريمة في هرب الاستثمارات. هذه الاستحقاقات هي جانب مما يدفع الرياض للتهدئة مع قطر وتثبيت هدنة طويلة الأمد في اليمن. وتجلّت الاستراتيجية الجديدة بوضوح في اللقاء الأخير في الإمارات الشهر الماضي بين ابن سلمان وابن زايد. وقد كانت المقرّرة الخاصّة للأمم المتحدة المعنيّة بحالات القتل خارج نطاق القضاء والتي ترأّست تحقيقاً حول قضية خاشقجي، أغنيس كالامار، قد دعت، في مقالة في «واشنطن بوست»، إلى إعادة النظر في عقد «العشرين» في السعودية في حال لم تتم محاسبة مرتكبي الجريمة.
ــــ بات ابن سلمان منذ مدة واثقاً بالانحياز الكامل لترامب إلى صفّه ولا مبالاته بالقضية مع ثباته الواضح، رغم مواقف الإعلام والكونغرس وباقي المؤسسات، على اعتباره أن ثمن العلاقة المربح يستوجب التستّر على الجريمة. وهو ما ترسّخ أكثر مع إسقاطه بالفيتو كل جهد للكونغرس لفرض تشريعات ضد السعودية. وإن كان لتستّر ترامب ثمن، فالابتزاز الأميركي أمر لا مناص منه لدى النظام السعودي، ما يجعل الاستفادة من وجود ترامب في البيت الأبيض أمراً ضرورياً. يريد الأمير السعودي أن يقول للمعترضين إنه أنجز المطلوب منه عبر محاكمة المتهمين. وكذلك بإمكان ترامب أن يواجه بعد الآن خصومه بهذه الحجة حتى لو كانت سخيفة، لا فقط استخدام اللازمة البالية لتبرير شكل علاقة الطرفين: مصالح متبادلة لا قيم مشتركة. وستكون هذه القرارات مقدّمة لتمرير هادئ لاستقبال قمة العشرين أو استئناف زيارات ابن سلمان. فاستبدال الأميرة ريما بنت بندر بالسفير لدى واشنطن، شقيقه خالد، كان أول مؤشر على ترقيع الأزمة بعد انحسارها نسبياً وإن لم تكن كافية لتهدئة الكونغرس.
ــــ ثقة ابن سلمان بترامب دفعته إلى استعجال أحكام تتجاهل حتى من وردت أسماؤهم في لائحة العقوبات الأميركية على المتورّطين الـ17، التي اكتفت بها إدارة ترامب. وهو ما يعني تجاهل غضب الكونغرس وإمكانية تفعيل ملف خاشقجي في إطار الحرب المفتوحة على البيت الأبيض، أي مزيد من الأضرار السعودية. وهذا يعني أن محاولة إغلاق الملف قد ترتد سلباً لتكون مناسبة لإثارته من جديد لو إعلامياً. أول المؤشرات على هذا الاحتمال ردود الفعل الأولية غير المقتنعة بالأحكام والمسخّفة لها باعتبارها تمويهاً للحقيقة. فمحاولة إغلاق الملف بدت للجميع أنها تشبه الجريمة نفسها إذ تتم بطريقة وقحة وغير مقنعة!