بعد تكليف حسّان دياب رئيساً لوزراء لبنان، كُلّف محمد توفيق علّاوي رئيساً لوزراء العراق. ثمة من يقول إن «الساحتين» اللبنانية والعراقية،«ساحةٌ واحدةٌ»، وفق منظور رعاة العملية السياسية في الشرق الأوسط. في الكواليس، لم يعد المؤثرون الإقليميون والدوليون في المنطقة يؤمنون بـ«أحادية» الساحات، بل بتشابكها، ويتأثر بعضها بظروف بعض.تكليف علّاوي يُعدّ استكمالاً لمسار «التوافق» الحاكم على العملية السياسية لـ«بلاد الرافدين». مقتدى الصدر وهادي العامري، عرّابا هذا المسار، أرادا استكمال جهود عادل عبد المهدي، الاستراتيجية، والمتعلّقة بإخراج العراق من السيطرة الأميركية على مفاصله، وذلك بتنفيذ القرار البرلماني القاضي بإخراج القوات الأجنبية أولاً، وتنفيذ الاتفاقيات العراقية ــ الصينية. في موازاة ذلك، منح المسار «التسووي» الصدر فرصة ذهبية لتعزيز حضوره وحصد المزيد من المكاسب، مقابل تخبّط خصومه وضياع رؤيتهم.
علّاوي، ابن «الدعوة» السابق، يفتقد اليوم دعم «رفاق السلاح». يحظى بدعم الجميع، وفق حسابات كلّ واحدٍ منهم. أمامه أيامٌ معدودة لتأليف حكومته، والمفترض أن تكون «انتقالية» تُعدّ لانتخاباتٍ تشريعيةٍ مبكرة، وفق تطلّعات «المرجعية الدينية». الأيام القليلة المقبلة ستكون حُبلى بالأحداث، بدءاً من حديث التأليف وشياطين تفاصيله، وصولاً إلى المنهاج الوزاري ورؤية الحكومة المرتقبة، وما بينهما من قدرتها على ضبط الأمن واستعادة هيبة دولةٍ فقدت، على مدى الأشهر الأربعة الماضية.
عودةٌ إلى «المربّع الأوّل»، بتكليف محمد توفيق علّاوي، رئيساً لوزراء العراق. ثمة من أطلق هذا «الوصف» على مسار تكليف الرجل الستيني، خصوصاً أنّه مشابهٌ في الشكل والمضمون لمسار اختيار عادل عبد المهدي، في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2018. تمسّكت كتلتا «سائرون» (المدعومة من زعيم «التيّار الصدري» مقتدى الصدر) و«الفتح» (ائتلافٌ نيابي يضم الكتل المؤيدة لـ«الحشد الشعبي») بمنهجيتها «الخاصّة» في اختيار رئيسٍ للوزراء، وهي استكمالٌ لجهود قائد «قوّة القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني الشهيد قاسم سليماني، الذي حرص ــ في لقاءاته الأخيرة ــ على تقريب وجهات النظر بين الصدر وزعيم «الفتح» هادي العامري. يتبنّى الزعيمان مرشّحاً يحظى بمقبوليّة الجميع، ثم يُكلّف رسمياً، وهذا ما جرى خلال الساعات القليلة الماضية.
أما في المضمون، ثمة من يقول أيضاً إنّ الترشيح مخالفٌ للدستور. ما من «كتلةٍ نيابيّةٍ أكبر» تبّنت هذا الطرح بشكلٍ رسمي. فالأسابيع الماضية شهدت «مناوراتٍ» لتحديد هويّة «الكتلة»، بقيادة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، شراءً للوقت وأملاً بتحقيق إجماعٍ على بديل لعبد المهدي. وإن حسمت رئاسة البرلمان تلك «الكتلة» لصالح «تحالف البناء» (ائتلافٌ برلمانيٌّ واسع يضم العامري ونوري المالكي وفالح الفيّاض وخميس الخنجر)، فقد كان لافتاً جدّاً رفض بعض «صقور البناء» هذا الخيار، وعلى رأسهم المالكي، وسط دعمٍ مشروطٍ وحتّى تحفّظ، من قبل بعض الأحزاب والقوى السياسية من المكوّنات الأخرى، وترحيبٍ إقليميّ ودوليٍّ بهذه الخطوة.
ثمة من علّق أن علّاوي ليس مرشّح أحدٍ بعينه بل مرشّح الجميع


هنا، ثمة من علّق أن علّاوي ليس مرشّح أحدٍ بعينه، بل مرشّح الجميع. هذه «الضبابيّة» تسهّل على طارحيه التخلّي عنه في «لحظة إحراجٍ ما»، أو الضغط عليه لتحقيق مكاسب ما. هذا التعليق سرى في الأوساط السياسية خلال الساعات الماضية، تحسّباً لتكرار سيناريو عبد المهدي، وفشل فريقه في إدارة الأزمة السياسية، التي عصفت بالبلاد منذ 1 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي. ثمّة تحدياتٍ عديدة سيواجهها الرئيس العتيد، تتعلّق بمسارين: الأزمة السياسية المستمرة أوّلاً، وآلية تكليفه ثانياً. ثمة من يوسّع هامش «وصف» التحديات، للتمييز في ما بينها، واعتبار المسار الأوّل «استراتيجي» والثاني «تكتيكي».
في المسار الأوّل، أي الاستراتيجي، تبرز الوثيقة الموقّعة من قِبل قادة «الفتح»، والتي اشترطت لدعم علّاوي التزامه بتنفيذ «جدول أعمال»، كان سبباً رئيساً في إشعال الأزمة:
1- الحفاظ على وحدة العراق
2- استعادة هيبة الدولة وفرض القانون
3- الالتزام بالقرار البرلماني، والقاضي بإخراج القوات الأجنبية
4- تنفيذ الاتفاقيات الموقّعة بين بغداد وبكين
أما في المسار الثاني، أي التكتيكي، فيبرز الأداء السياسي للصدر، والذي سهّل عمليّة التسمية، من خلال:
1- استيعاب ساحات التظاهرات
2- تفريغها من الثقل الجماهيري
3- رفع الغطاء عن المخرّبين، وجعلهم في مواجهة القوات الأمنيّة
4- العودة إلى الشارع، والتحكّم في مفاصله والسيطرة على ساحات التظاهرات
هذان المساران المتوازيان، سيمنحان علّاوي فرصةً كبيرةً لاستعادة «هيبة الدولة» في مختلف المحافظات، وتحديداً الجنوبيّة منها، والحدّ من الفوضى والتخريب والاستهتار، بمساعدة أصحاب «القبعات الزرقاء» («التيّار الصدري»)، وبرضىً إقليمي ودولي. أولى تلك «الإشارات» كانت سيطرة «القبعات الزرقاء» على «المطعم التركي» (ساحة التحرير، وسط بغداد)، أوّل من أمس، بعد الإعلان عن تكليف علّاوي، باتفاق الصدر والعامري والحلبوسي، ورئيس الجمهورية برهم صالح، وزعيم «الحزب الديموقراطي الكردستاني» مسعود البرزاني، وسط حديثٍ موازٍ عن «ضوء أخضر» منحته النجف إزاء أي توافقٍ سياسي من شأنه إخراج البلاد من الأزمة.
لكن، ثمّة من يسأل لماذا يروّج لرفض الشارع لعلّاوي، علماً بأن متظاهري «التحرير» سبق أن رفعوا اسمه كخيارٍ يمثّلهم لتسنّم المنصب العتيد. ثمة من يجيب عن هذا السؤال بالإشارة إلى أنّه في كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، طرح اسم الرجل على منصّة «المطعم التركي». ثمة من يقول إن المتظاهرين «الصدريين» أعدّوا قائمة من خمسة مرشحين بينهم علّاوي. يتابع هؤلاء أن المسار «التكتيكي» يكشف عن «تخطيطٍ» مسبق لإسناد المهمة إلى علّاوي، لكن تنفيذها كان مرهوناً بعامل الوقت، ليختموا حديثهم بالقول إن «الصدر استطاع بخطواته تلك وتكتيكاته، أن يطرح مرشّحاً يريده هو، ويبتلع الشارع، مستفيداً من ضبابية الرؤية لدى خصومه».
وإن صحّت ادعاءات «سائرون» و«الفتح» بإطلاق يد رئيس الوزراء المكلّف في تأليف حكومته المرتقبة، وشروعها في تنفيذ «المسار الاستراتيجي» المتفق عليه، فإن التحدّي الحالي يكمن في تأليف الحكومة، وفق المهلة الدستورية، والتي نصّت عليها «المادة 76/ ثانياً» منه، أي يتولى رئيس مجلس الوزراء المكلّف تسمية أعضاء وزارته خلال مدةٍ أقصاها ثلاثون يوماً من تاريخ التكليف. بدأ العدّ التنازلي، والمدّة الممنوحة تنتهي في 1 آذار/ مارس. ثمة من يقول إن عمليّة التأليف «تحصيل حاصل»، والرهان الآن على «جديّة علّاوي في تنفيذ برنامجه».