الناصرة عاصمة الجليل، تربعت منذ عام 1948 لتكون مهد انطلاق شرارة الغضب ضد الغاصب المحتل. ضد سياسات التهجير ومصادرة الارض وهدم البيوت. منها انطلقت أكبر المظاهرات والاعتصامات من يوم الأرض إلى صبرا وشاتيلا. تظاهرات عيد العمال والانتفاضات الفلسطينية والاحتجاج على الحروب والمجازر الاسرائيلية وسياسة التمييز العنصري.
في عام 1975 هزّت الناصرة، عاصمة الجماهير العربية والوجه والبوصلة للفلسطينين في الداخل، الارض المحتلة وغيّرت الموازين وأوصلت الى رئاسة البلدية شخصية قيادية رائدة في الحركة الوطنية تجلت في شخص الراحل توفيق زياد. كان انتصاره في الانتخابات البلدية الخطوة الأولى على طريق التغيير، حيث كان الشعار «انتصرت الناصرة... كلنا على طريق الناصرة». في فترة كانت الجماهير الفلسطينية تهاب فيها سلطة الاحتلال بعد سنوات من الحكم العسكري، انتزع فلسطينيّو الـ48 من السلطة الاسرائيلية رئاسة البلديات وثبّتوا أقدامهم ووجودهم كسكان أصليين للبلاد.
منذ عام 2000، شهدت مدينة الناصرة أزمة بين الحركة الاسلامية والتيارات العلمانية، قسمت المدينة إلى طوائف وملل وأحزاب وتيارات إسلامية جعلتها بيئة خصبة وملائمة لتخترقها سلطات الاحتلال الإسرائيلية، وتحاول السيطرة على المشهد العام للمدينة من خلال أعوانها وفخاخ تنصبها لإيقاع فتيل الفتنة بين أبنائها.
الانتخابات الأخيرة في الناصرة جرت على جولتين: الاولى حددت انتصار رامز جراسة الذي شغل المنصب على مدى 14 عاماً، ومعه الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، على المرشح علي سلام وقائمة «ناصرتي». لكن تدخل وزير الداخلية جدعون ساعر والمستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية أدى الى إقرار محكمة العدل العليا إعادة الانتخابات في الناصرة، ما أتاح الفرصة لعلي سلام لتجنيد أصوات أكثر والفوز في هذه الانتخابات. مرة أخرى عملت السلطات الإسرائيلية وأعوانها على الارض على شق الصف الفلسطيني داخل أراضي الـ1948 وعلى إعادتهم الى المربع الاول، الى شعب ضعيف خائف يجري وراء التحالفات الضيقة الطائفية، القبلية والعائلية. تحالف علي سلام وكاهن التجنيد نداف أقلق الخائفين على الناصرة وعلى الوضع الفلسطيني في الداخل بشكل عام، فجعل البعض يصف انتصار سلام بانتصار الليكود في انتخابات البلدية.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي سميح غناردري «إن الأمور ما زالت غامضة الآن، وستتوقف على الائتلاف البلدي الذي سيتشكل في البلدية، علماً بأن كتلة الجبهة التي خسرت الرئاسة هي الكتلة الأكبر في البلدية بواقع 8 أصوات. والسؤال هنا هل علي سلام سيتخلص من مرجعيته وداعميه من سلطويين ومن قوى طائفية وغيرها؟ هل سيتجه الى إقامة ائتلاف شامل مع كتلة الجبهة؟ علماً بأن الجبهة لا يمكن أن تدخل في ائتلاف إلا إذا كان ائتلافاً على أساس برنامج قومي وطني تقدمي علماني يتابع مسيرة الناصرة وطنياً وينهض بها عمرانياً».
ويضيف أن «الواقع المكشوف يثبت أن السلطة الاسرائيلية الليكودية بالذات كانت على رأس اللاعبين والمتدخلين في انتخابات الناصرة، وهذا نشر أولاً من خلال الإذاعة الاسرائيلية وثانياً في صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية»، حيث ورد في الوسيلتين أن «علي سلام كان أصلاً عضواً في الليكود في مرحلة معينة من تاريخه السياسي، حتى عندما كان عضواً في الجبهة ونائباً لرئيس البلدية آنذاك رامز جرايسة».
من جهته، يقول سكرتير الحزب الشيوعي وائل جهشان إن «مصلحة إسرائيل ومؤسساتها التقت على كسر احتكار الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، وهي أكبر تجمع سكاني لفلسطينيي 1948 على مدار السنوات الأربعين الماضية، لقيادة بلدية الناصرة، فقامت بتوظيف أعوانها وتغيير المعادلة. وجدوا ضالتهم في شخص (علي سلام) كان جزءاً من الجبهة لسنوات عديدة وانشق منذ أقل من عام، وقام بتشكيل قائمة انتخابية منفردة لخوض الانتخابات أمام رامز جرايسة والجبهة. وبما أن الاحزاب والقوائم الأخرى التي خاضت الانتخابات في المرحلة الاولى لم تستطع تجاوزها، وجدوا في المرحلة الثانية فرصة سانحة لدعم المرشح سلام وتوجيه الاصوات كلها من أجل الفوز على مرشح الجبهة، وهذا ما حصل فعلاً».
يضيف جهشان «للأسف، بمساعدة بعض الاشخاص والقيادات أعادونا الى الطائفية العائلية والقبلية. وكل ما حدث من أجل المماحكة السياسية، وانتصار المؤسسة الإسرائيلية بالتعاون مع بعض الاحزاب العربية والقوائم المحلية التي ساهمت بدور رئيس في إسقاط الناصرة. رغم الخسارة، هناك مجموعة من الشباب الواعي الوطني الواثق ذي معنويات عالية من أجل النهوض بالحركة الوطنية. لن يسمح لأحد بإضاعة مجهود سنوات من العمل الوطني لأجل كل الذين حاربوا، لأجل تثبيت أقدامنا في البلاد. لن نسمح لعكاكيز المختارة بالانتصار».
ما يثير الاهتمام في هذه المرحلة نشاط «منتدى تجنيد المسيحيين» ودعوتهم المتزايدة إلى تجنيد الشباب المسيحي في الناصرة والداخل، من منطلق أسلمة الناصرة والخوف من الاسلام والحركات الاسلاموية. والقائمة الفائزة في الانتخابات هي الثغرة التي نجحت إسرائيل من جديد في إيجادها من خلال مخططات مدروسة تلعب على الوتر العقائدي الطائفي، قد تدفع بمزيد من ضعفاء النفوس الى اللهاث وراء الاحتلال «خوفاً»، ما قد يؤدي إلى زيادة في أعداد المتجندين. المنتدى نفسه دعا إلى مظاهرة اليوم السبت أمام سفارة الاتحاد الاوروبي في تل أبيب «ضد ذبح المسيحيين في العالم العربي» ليظهر أن إسرائيل هي من يحميهم ويقلق لحقوقهم، متناسين أن الاحتلال هجّر المسيحيين من فلسطين.