هجومٌ أميركيّ واسع ضد مقار «كتائب حزب الله» و«حركة النجباء» في عدد من المدن العراقية. هو ردٌّ على استهداف «التاجي» الذي وصفته الصحافة الأميركيّة بأنّه «الأقسى منذ سنوات استهداف مصالحنا في العراق». المواقف العراقيّة على «ردّ الفعل» الأميركي حتى أوّل ساعات الفجر لم تخرج بعد. أما المواقف إزاء استهداف «التاجي»، فكانت متضاربة، لكنّها في المحصّلة تُجمع على أن العمل المقاوم ضد قوات الاحتلال قد دخل «مرحلة جديدة». «حادثة التاجي»، والردّ الأميركيُّ أيضاً، هما تحوّلٌ في ملامح المرحلة المقبلة المصبوغة بقواعد مختلفة، فلا الهدف إبراز فصيل دون آخر بقدر تأكيد مشروعية «العمل» وتحقيق الهدف الكلي منه على المدى البعيد، أي إخراج القوات الأميركية من غرب آسيا عموماً، ومن بلاد الرافدين خصوصاً.
سريعاً جاء الردّ الأميركي على تعرّض «معسكر التاجي» (85 كيلومتر شمال العاصمة بغداد)، أوّل من أمس، لهجوم صاروخي استهدف «مناطق قوات التحالف، ما أدى إلى سقوط ثلاثة قتلى (جندي أميركي وآخر بريطاني، ومتعاقد أميركي)، و14 جريحاً من جنسيّات مختلفة، خمسة منهم في حالة حرجة». البيان الصادر عن «قيادة العمليّات المشتركة» وصف الحادثة بـ«التحدّي الأمنيّ الخطير جدّاً... وعملاً عدائيّاً»، ما دفع رئيس الوزراء المستقيل، عادل عبد المهدي، إلى «فتح تحقيق فوريّ لمعرفة الجهات التي أقدمت على هذا العمل... وملاحقتها وتقديمها إلى القضاء مهما كانت الجهة».
كذلك، حمل بيان «المشتركة» لهجة حادّة عكس المعتاد، إذ أشار إلى اتخاذها إجراءات حازمة للتصدي بقوّة لأي استهداف يطاول المعسكرات والقواعد، وأيضاً أن «قوات التحالف موجودة بموافقة الحكومة الاتحاديّة، ومهمتها تدريب القوات العراقية ومحاربة (تنظيم) داعش وليس أي طرف آخر»، مضيفاً إن «بغداد أبلغت واشنطن رسمياً القرار البرلماني، (لكن) مباحثات جادّة تجرى في هذا المجال... مثل هذه الأعمال تعقّد الأوضاع».
بينما يؤكّد مطّلعون أن عبد المهدي «منزعجٌ جدّاً، ومستاءٌ مما جرى»، برزت المواقف المستنكرة للهجوم، بدءاً من رئيس الجمهورية، برهم صالح، ورئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، وصولاً إلى رئيس «إقليم كردستان»، نيجرفان بارزاني، وما بينهم من الأحزاب والقوى من مختلف المكوّنات، التي «تناغمت» مع الموقف الأميركي الذي عبّر عنه وزير الدفاع مارك إسبر، بالقول إن «جميع الخيارات مطروحة على الطاولة وننسّق مع شركائنا لمعاقبة المذنبين والحفاظ على الردع»، مضيفاً إنّ «الهجوم شنّته جماعات مسلّحة شيعيّة موالية لإيران». ولفت إسبر إلى أن الرئيس دونالد ترامب منحه «كامل الصلاحيات... لفعل ما يجب فعله»، نافياً وجود نيّة لدى بلاده لضرب الأراضي الإيرانية.
في السياق، يرجّح متابعون تكرار سيناريو الهجوم على قاعدة «K1» في محافظة كركوك (شمال البلاد) أواخر العام الماضي، الذي أعقبته غارات أميركيّة على أكثر من مقرّ لـ«الحشد الشعبي» في المنطقة الحدودية مع سوريا (غرب البلاد)، واستشهاد أكثر من 25 وسقوط أكثر من 40 جريحاً. ويؤكّد مطّلعون على مناخات السفارة الأميركية لدى بغداد أن الأخيرة أخطرت الحكومة الاتحادية بأن «هناك 106 أهداف، سنختار بضعة منها في التوقيت المناسب»، في وقت ذهب فيه آخرون إلى القول إن الرّد «ربما يستهدف مقارّ الألوية 12 (حركة النجباء) و42 (عصائب أهل الحق) و46 (كتائب حزب الله العراق)».
وفي وقت متأخّر من ليل أمس، نقلت وكالة «رويترز» عن مسؤولين أميركيين قولهما، إن واشنطن تنفّذ ضربات «انتقامية» بعد «هجوم التاجي»، في وقت أفاد فيه متابعون بأن القوات الأميركيّة أطلقت «عملية جوية واسعة» تنفذها عددٌ من الطائرات الحربية والمسيرات ضد مقار تابعة لـ«كتائب حزب الله» و«حركة النجباء» في عدد من المدن أبرزها جرف الصخر (شمال محافظة بابل)، وبلد (جنوب محافظة صلاح الدين) والقائم (غربي محافظة الأنبار)، إضافة إلى صحراء كربلاء.
ثمة من يصف مفاوضات الانسحاب مع واشنطن بـ«العبثيّة»، وهدفها «شراء الوقت»


أمام هذا الاستنكار، وتأكيد البعض أن «تسريباً» وصل إلى فصائل المقاومة يحذّرها من «ردّ فعل» أميركيّ (غير الذي حدث في المنطقة الحدوديّة أوّل من أمس)، كان لافتاً «تنصّل» فصائل المقاومة «المعروفة» من المسؤولية عن الهجوم، بل دعوة «الفاعل» إلى الكشف عن هويّته، ودعمه إن استلزم الأمر، وسط ترحيب منها وتأكيدها أن العمل المقاوم يحظى بدعم القوى الوطنيّة. هذا المشهد يقود إلى الخلاصات التاليّة رسميّاً وميدانيّاً:
1- عمليّاً، دخل العراق في مرحلة جديدة من مواجهة القوات الأميركيّة، وخاصّة أن هناك من يصف المفاوضات مع واشنطن بـ«العبثيّة»، وأن هدفها «شراء الوقت»، وما من قرار أميركيّ «جدّي» بالانسحاب «الكُلّي» في المدى المنظور. وثمّة من يؤكّد أن الجانب الأميركي طلب من العراقي مطلع العام الجاري (بُعيد اغتيال نائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس، وقائد «قوّة القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، قاسم سليماني، ورفاقهم في محيط مطار بغداد الدولي) مهلة شهرين لإعلان جدول زمني لـ«انسحاب سلس». لكن مواقف الساسة المتناقضة من الاحتلال، وانشغالهم بالمسألة الحكوميّة، أرجآ هذا النقاش بالتوازي مع تعمّد الأميركيين «حرف الحديث» من «انسحاب» إلى «إعادة تموضع».
2- بالتوازي مع الموقف الحكوميّ الحاد إزاء منفذي الهجوم، ثمة من يسأل داخل البلد وخارجه عن موقف الحكومة من الانسحاب الأميركي وتوقيته، ومآلات المفاوضات «الهزيلة»، وفق تعبير هؤلاء. فالهجوم أقرب إلى أن يكون دعوة لتحريك «عجلة» النقاشات تلك، ورسالة بأن «الصبر قد نفد»، والمرحلة المقبلة لن تقتصر على الصواريخ، بل ستأخذ مديات وأساليب مختلفة.
3- تسعى الحكومة الاتحادية إلى معاقبة الفاعلين منعاً لتكرار أي هجوم مماثل. والسبب أن بغداد تحرص على تحييد البلاد عن أي مواجهة بين طهران وواشنطن، وترفض أن يكون العراق ساحة اشتباك. هذا القرار لم يكن وليد اللحظة، بل سبق أن اتّخذ مطلع الشهر الجاري، ومن شأنه أيضاً أن يعقّد المشهد أكثر، ويحوّل الأجهزة الأمنية إلى «رجل إطفاء» يسعى إلى إخماد حريق ضخم، مع أنه يفتقر إلى العدّة اللازمة.
4- «تنصّل» الفصائل من تحمّل المسؤولية ودعم الهجوم في الوقت عينه يدلان على جهد هدفه «هيكلية» العمل المقاوم، فالوجوه المُقاوِمة (الفصائل) برفضها تحمّل المسؤوليّة، بالنظر إلى طبيعة الموقف وعلاقتها «الجيّدة» مع عبد المهدي، دفعت المعنيين إلى تأسيس «مجاميع» جديدة تعمل بسرّية لتكثيف ضرباتها المؤلمة للاحتلال.
5- تعكس إعادة «الهيكلة» تبدّلاً في فلسفة العمل المقاوم، وتحديداً من الجانب الإيراني المتأكّد من أمرين: الأوّل سعي الولايات المتحدة إلى إعادة تموضع قوّاتها في المحافظات الغربية والشماليّة، والثاني تحييدها استهداف الأراضي الإيرانيّة في معرض «ردّ الفعل» على أي استهداف. مناخٌ خلق لطهران مساحة واسعة من المناورة، فأسّست خلايا جديدة ترتبط بها عضوياً (تحديداً بـ«قوّة القدس») حتى لا تُحرج حلفاءها السياسيين. بذلك، بات الاحتلال الأميركي في مواجهة قاسيّة ضد أكثر من عدو: الأحزاب السياسية الرافضة للاحتلال، وفصائل المقاومة الرافضة للدخول في مواجهة عسكريّة (حاليّاً)، والمجموعات المشكّلة حديثاً.
6- منذ استهداف «الحرس الثوري» قاعدة «عين الأسد» مطلع العام الجاري بعدد من الصواريخ الباليستيّة، يضغط الأميركيون على الحكومة العراقيّة لنصب منظومة «باتريوت» الدفاعية. ثمة من يقول إن الهجوم يستهدف «مكاناً» مقترحاً لنصب هذه الترسانة، وإن «الرسالة التي أُريد أن تكون بالنار، وصلت بالدم... هذا لا يغيّر شيئاً من مضمونها، فالحساب بين المقاومة والاحتلال الأميركي طويلٌ جدّاً».
7- في الأيام الماضية، كثّفت واشنطن إعادة تموضع قواتها في بلاد الرافدين. في هذا الإطار، شهد معسكرا «التاجي» و«عين الأسد» حركة كثيفة. في المقابل، تؤكّد مصادر أمنيّة أن قيادة «الحشد» (وأجهزة أخرى) رفعت إلى رئاسة الوزراء تقارير تفيد بعودة محتملة لـ«داعش»، وإطلاق التنظيم خلاياه النائمة لشنّ عمليات في المناطق التي ينسحب منها الأميركيّون. هذه «المعادلة»، يصفها بعضهم بـ«الابتزاز الأميركي»، أي انتشار قوات الأخيرة مقابل ضمانها عدم «تحرّك داعش»، وهذا ما يستفزّ «منظومة المقاومة» التي تأمل في أعمال مماثلة «فرض معادلة جديدة» تقوم على القدرة الذاتية في حماية المناطق رغم الانسحاب الأميركي.



واشنطن و«الوحل» العراقي
تؤكّد وزارة الدفاع الأميركية أن عدد القتلى العسكريين الذين سقطوا في العراق بين آذار/ مارس 2003 وكانون الأوّل/ ديسمبر 2011 لا يتجاوز 4500 عسكري، الى جانب أكثر من ثلاثين ألف جريح. لكن ثمة من يشكّك في هذه الأرقام، وخاصّة اللجان الأميركيّة المحايدة والمستقلة التي أدركت حجم الخسائر جرّاء عمليات المقاومة العراقية (على اختلاف انتماءاتها). هذه اللجان (بعضها حكومي) تؤكّد أن العدد «الحقيقيّ» يفوق عشرة آلاف قتيل، فالعدد الرسمي لا يشمل العاملين في الشركات الأمنية، والذين يستعين بهم الجيش تحت بند «خصخصة الحرب»، ويقومون على أعمال تتراوح بين صيانة أنظمة الأسلحة والعمليات القتاليّة، إلى حماية الدبلوماسيين الأميركيين. كذلك، لا تشمل الأرقام الرسمية القتلى من الجنود المتعاقدين بغرض الحصول على الجنسية الأميركية، فضلاً عن عشرات الشركات الآسيويّة والهنديّة، أو الذين قضوا «في حوادث غير قتاليّة» والمنتحرين، أو عدد الجرحى الذين ماتوا في المستشفيات الألمانية أو في الطريق إليها، وهم عادة لا يُحتسبون ضمن الإحصاء الرسمي. أما عن الخسائر الماديّة، فبعدما كانت كلفة الحرب شهرياً 4.4 مليارات دولار عام 2003، ارتفعت عام 2008 لتصل الى حدّ 12 ملياراً شهرياً، فيما بلغت القيمة الإجماليّة لاحتلال العراق أكثر من تريليوني دولار.
(الأخبار)